ثورة ضد النظام العائلي وليست انقلابًا على الرئيس

في عام 2011 صرخ الشعب اليمني من أدناه إلى أقصاه بشعار: "الشعب يريد إسقاط النظام"، لم يكن الشعب يسعى إلى انقلاب ضد علي عبدالله صالح، بل كان يسعى إلى إنجاز ثورة ضد النظام القائم، واستبداله بنظام ديمقراطي حقيقي، وهنا كان على طليعة قوى الثورة أو "الكتلة الحرجة" للثورة أن تشرح للجماهير طبيعة نظام علي عبدالله صالح الذي تريد إسقاطه، وطبيعة النظام البديل الذي تريد استبداله به، وقد كنت أول من أطلق على نظام علي عبدالله صالح مصطلح "النظام العائلي"، عبر منصة ساحة التغيير ومحاضراتي في خيام ومنتديات الساحة، وكان كثير من السياسيين والنخب، ومازالوا، يعتقدون أن المقصود بالنظام العائلي هو هيمنة علي عبدالله صالح وأبنائه وإخوته وأبناء إخوته وأصهارهم وجنرالات سنحان، على السلطة، وهذا مجرد مظهر من مظاهر النظام العائلي، وليس جوهره، فمن أين جئت بمصطلح النظام العائلي؟ وما هي دلالاته؟

استخدم عالم الاجتماع الألماني الفذ ماكس فيبر "Max Weber" مصطلح "patrimonial state"، وقد فضل كثير من السوسيولوجيين العرب الاكتفاء بتعريب المصطلح "الدولة الباتريمونيالية"، واجتهد بعض الأكاديميين اللبنانيين فترجموه بمصطلح "دولة العزبة"، باعتبار كلمة "patrimonial" هي صفة مشتقة من كلمة "patrimony" والتي تعني عزبة أو ضيعة خاصة، وهذه الترجمة ممتازة في الحقيقة، ولكني أحببت أن أقدم ترجمة أكثر قربًا من فهم المواطن اليمني، فكلمتا عزبة وضيعة ليستا مستخدمتين في اللهجة اليمنية، وأن أقدم ترجمة أكثر قربًا من مقاصد ماكس فيبر حسب اعتقادي، فكلمة "patri/monial" مكونة من شقين، الأول مأخوذ من كلمة "patriarchal" وتعني أبوي، والشق الثاني مأخوذ من كلمة “matrimonial" وتعني زواجي أو أمومي، وبالتالي فإن المصطلح يتعلق بالعائلة، واخترت له مصطلحًا عربيًا مقابلًا هو "عائلي"، والمقصود بالنظام العائلي، من وجهة نظري، هو النظام الذي يَعتبر فيه رئيس الدولة، والمسؤول الأول في كل وزارة أو هيئة أو مؤسسة أو جهاز، أن سلطته على العاملين فيها هي سلطة رب عائلة على أفراد عائلته، وأن كل مواردها، بما فيها الموارد المالية والوظائف، هي موارد عائلية يحق له التصرف بها كيف شاء، بالتوريث، البيع، الإهداء، الهبة، التصدق، الوصية... إلخ. وليس باعتبارها موارد عامة وأموالًا عامة ووظائف عامة.

أما لماذا أطلقت مصطلح النظام العائلي على نظام علي عبدالله صالح؟ فذلك يرجع إلى أنه عمل على بناء مؤسسات وأجهزة وإصدار تشريعات وتكريس ثقافة سياسية تسمح له ولكبار مسؤوليه بالتصرف بالموارد العامة كما لو كانت موارد عائلية، فكان يمنح شيوخ قبائل رتبًا عسكرية دون التحاقهم بالجيش، بل وصل به الأمر منح بعض شيوخ القبائل ألوية عسكرية يستلمون مرتبات أفرادها ويحركونها كيف شاؤوا، كاللواء الذي كان يتبع صادق الأحمر، صرف أسلحة خفيفة ومتوسطة وثقيلة لبعض المشايخ، يمنح وظائف وهمية في التربية والتعليم ووزارة الصحة والجيش ومصفاة النفط بعدن وشركة الخطوط الجوية اليمنية لمن شاء، يحول عقارات وسيارات ومنحًا دراسية ومنحًا علاجية لمن شاء، يعين رؤساء هيئات وأجهزة ومؤسسات وجامعات دون اعتبار لمبدأ التنافس القائم على تكافؤ الفرص، بل دون اعتبار للشروط المحددة في القانون أحيانًا، حيث عين وكلاء وزارات يحملون مؤهل ابتدائي، ورؤساء جامعات بدرجة أستاذ مساعد، وكان يتحايل على هذه التعيينات باستخدام كلمة تكليف عوض استخدام كلمة تعيين، يمنح تحويلات مالية شهرية لشيوخ القبائل عبر مصلحة شؤون القبائل، يشتري ذمم بعض المثقفين والسياسيين مقابل تحويلات مالية شهرية عبر ما تسمى "كشوفات الإعاشة"، التي تصرف من مكتب رئاسة الجمهورية، ولعل أكثر ممارساته صفاقة هي تنازله عن جزء من مساحة الجمهورية اليمنية للمملكة العربية السعودية.

كان علي عبدالله صالح يدعي أن نظامه نظام ديمقراطي، وكان يردد أثناء ثورة فبراير عبارة: "من يريد الوصول للسلطة فليصل إليها عبر الصندوق"، يقصد صناديق الانتخابات، والحقيقة أن صناديق الانتخابات في الوطن العربي هي أكبر كذبة ديمقراطية، فلم تؤدِّ إلى تداول سلمي للسلطة في أي بلد عربي، واستخدمتها الأنظمة العربية لغسل شرعيتها في عملية أشبه بعمليات غسيل أموال تجارة المخدرات، وحتى لو أدت إلى تداول سلمي للسلطة، فإنها تبقى مجرد أداة من أدوات الديمقراطية الشكلية أو الأداتية "minimalist democracy"، القاصرة عن تجسيد تعريف إبراهام لنكولن للديمقراطية باعتبارها نظام "حكم الشعب للشعب بالشعب"، فهي لا تحقق مشاركة كاملة للشعب في اتخاذ القرارات المتعلقة بحياته ومصالحه، ولا ترقى لمستوى الديمقراطية الغائية "maximalist democracy"، التي تضمن الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.