محمد المساح.. إنسان فوق العادة

قلة هم الشعراء والكتاب والسياسيون الذين خلدوا في التاريخ قراهم النائية/ المجهولة (مساقط رؤوسهم أو منابت أجدادهم)، من خلال ذواتهم الإبداعية، بعد أن ربطوها بأسمائهم.. فالشاعر الناقد د. عبدالعزيز المقالح، جعل من المقالح/ القرية/ المنطقة، اسم علم ثقافيًا لها أسواقها، والشاعر الكبير عبدالله البردوني، حوّل قريته المنسية "بردون" من قرى ذمار، إلى مزار، وإلى هوية ثقافية/ أدبية، بعد أن توحدت القرية باسمه وبشعره وكتاباته، وكذلك فعل محمد المساح الذي جعل من منطقة "المساحين" في حجرية/ تعز، التي ولد ونشأ أديبنا الكبير فيها، وهكذا الأمر مع الكبار، ومنهم الشاعر د. سلطان الصريمي، والشاعر عبدالكريم الرازحي، وقبلهم جميعًا في تاريخنا الشعري والثقافي المعاصر، الشاعر الكبير محمد محمود الزبيري، وغيرهم ممن أثروا حياتنا الأدبية والفكرية والثقافية والوطنية؛ وهناك من خلدوا مدنًا ومناطق أجنبية، لأنهم مروا فيها، أو ارتبطت تجارة آبائهم بها، أو لأسباب حياتية مختلفة، كما هو الحال مع فقيد اليمن والمثقف الوطني الكبير، عمر بن عبدالله الجاوي، الذي وحد الوطن اليمني باسمه وبكتاباته، من خلال دوره وإسهاماته في إغناء وإثراء حياتنا الفكرية والثقافية والسياسية الوطنية. وجميع من ذكرتهم -أغلبهم- تربطهم علاقة فكرية وثقافية ووطنية وإنسانية عميقة بالصديق/ الأستاذ، الجليل محمد المساح، رحمة الله تغشاه.

محمد المساح(شبكات التواصل)
محمد المساح(شبكات التواصل)

ما إن تذكر "المساحين" المنطقة، حتى يتبادر إلى ذهنك اسم محمد المساح، وكأنه هو من هندس ميلاد المنطقة جغرافيًا، وليس أجمل وأنبل أبنائها البررة، الذي تحول إلى ذاتية أدبية وشعرية وثقافية وجمالية تغطي حياتنا الصغيرة والكبيرة بالبهاء والألق والفرح الذي كانه المساح في حياتنا، فكرًا وإبداعًا وسلوكًا.

عاش محمد المساح حياته بالطول والعرض، وفق اختياراته الوطنية والإنسانية. عاشها كما يريد، وكما أحب، لم يخضع لشروط من خارجه تملي عليه كيف يتصرف وكيف يكون في مواقفه الحياتية المختلفة، وكأن مواقفه وكتاباته، وتصرفاته ابنة بجدتها، كان كما أراد في كل شيء، من أول المهد إلى منتهى اللحد.

لمن لا يعرفه عن قرب، هو إنسان عفوي، وتلقائي.. آية إنسانية في البساطة والتواضع، على أنه ليس تلقائيًا ولا عفويًا في أقواله الكلامية/ الشفاهية، ولا هو كذلك في كتاباته.. كتاباته وأقواله الكلامية تخرج منضبطة على إيقاع تفكيره العميق الكامن في خلايا بنية وعيه الاجتماعي الشعبي، وبنية تفكيره العميق الذي يضبطه على مقياس المسؤولية الاخلاقية والاجتماعية والوطنية، وعلى مقياس العقل السياسي الواقعي كما هو يراه، وإن تبدى للبعض أنه عفوي أو فوضوي؛ هو يعرف كيف يعيد ترتيب وهندسة “فوضى النظام”، مثله لا يعرف الفوضى إلا في طريقة وشكل التعبير، أما مضمون الفكر والتفكير عنده فمحكوم بالعقلي والمنطقي والتاريخي، محكوم بمنطق التفكير الواقعي والعقلاني النقدي.. قد تكون نقديته حادة/ قاسية، وساخرة، أو تبدو زائدة عن الحد في مواقف معينة يقدرها هو، وهي من تركت انطباع العفوية والفوضوية على من لا يعرفونه في تفاصيله الإنسانية البسيطة والعميقة، هو في كل شيء: الكتابة، التفكير، السلوك، سهل ممتنع. وهذا ما جعله محط محبة وإعجاب الكثيرين من حوله، اتفقوا معه أو اختلفوا.

في نهاية النصف الأول من عقد السبعينيات (73-1974) من القرن الماضي، تعرفت عليه بعد عودته من استكمال دراسته الجامعية في مصر/ الكنانة، وكان حينها -بداية تلك السنوات- مايزال على عادة لبس السروال، والكوت، بدون كرافتة، ولم تكن ظاهرة "الفوطة" هي زيه المميز الذي عرفه به الجميع بعد ذلك.. كانت المقاهي والمطاعم التي تضج بها ساحة التحرير، وشارع علي عبدالمغني، هي عناوينه في فترة خروجه من العمل، وبعد القات، كانت شلة خريجي الجامعة حينها، أسماء معدودة في اليمن، وكان حظ صنعاء منها كثيرًا من الأسماء، كونها العاصمة، ولا تحتاج للبحث عن محمد المساح لتجده، هو في كل الجهات والاتجاهات، حيثما توجهت تسمع صوته، وقهقهاته المميزة، كل ذلك يدل من لا يعرفه عليه، ويقول له هذا هو محمد المساح، القصير القامة، الكبير فوق العادة في إنسانيته، لا تحتاج لبذل جهد للاقتراب منه وتكوين علاقة صداقة معه، في زمن قياسي تصبح صديقًا له، وميزته أنه لا ينسى الوجوه التي يتعرف عليها من أول وهلة، وبسهولة تبقى صورة الوجوه محفورة في ذاكرة عقله (ذاكرة الصورة)، حتى بعد سنوات طويلة، قد ينسى الأسماء -أو بعضها- ولكن ملامح ووجوه الناس والأشياء تبقى مدونة ومغروسة في سجل ذاكرته.

هو بحق “زوربا” اليمن كما وصفه بذلك العديد من الأصدقاء، هو في ساعة غضبه النادرة والمحدودة، شمشون الجبار، ما إن تنتهي فورة غضبه القصيرة والنادرة في سلوكه اليومي/ الحياتي، حتى يعود فراشة تحترق لتشعل الابتسامة في محيا من حوله.

وهو في قمة الغضب والقهر أو الفرح والانبساط، هناك كلمات وجمل وتعبيرات لا تفارقه، ارتبطت باسمه "ملكية فكرية" خاصة به مثل: "رأيت ما أخبثه"، "يا ابن حماري"، "ملعون/ وغد"، "يا ابن الإيه"، تعبير أو جملة مصرية دارجة، حملها معه من رحلته الدراسية/ الحياتية في مصر، فـ"يمننها"، حتى غدت عبارة تشير إليه وتدل عليه بين أصحابه، ولن تجد في قاموسه التعبيري كلمات وتعبيرات مبتذلة، مرذولة، قبيحة، نابية، تخدش الحياء العام، دليل على أصله الثقافي النبيل، ومنبته الأخلاقي البسيط والكريم، هذا هو محمد المساح ابن البساطة الشعبية اليمنية.

محمد المساح، قبل أن يكون أي شيء من الصفات النبيلة، هو إنسان فوق العادة، وهذا الإنسان فوق العادة، هو الذي جعل حضوره مميزًا ومتميزًا، هو كما قال صديقنا المشترك عبدالباري طاهر، أحد أهم كتّاب قصيدة النثر في اليمن، بعد محمد أنعم غالب، لا تستطيع أن تقدم سردية نقدية عن الكتابة النثرية في اليمن المعاصر، دون أن يكون محمد المساح وبعض رفاقه على رأس هذه الطليعة من رواد قصيدة النثر.

لحظته الزمنية هي زمنه الخاص في الكتابة، الذي يختزل فيها صورة عميقة لمعنى الزمن الإنساني في حياة هذا الطفل، وهذه المرأة، وذاك العجوز، وفي ذلك الحدث العادي الذي يبدو عابرًا وقد لا يراه البعض، ولكن معه يتحول الحدث العابر، إلى عالم، وإلى زمن تاريخي كامل، يغوص فيه المساح بكلمات وسطور، مكثفًا المعنى، ليقول ويحكي سفر حكاية إنسان/ وشعب.

”لحظة يا زمن” هي سفر رحلة عمر تمتد إلى نصف قرن، كل لحظة هي قصة وحكاية ورواية يحكيها المساح بلغة أدبية فائقة الروعة والجمال، فيها يختزل المساح تفاصيل حياة الناس البسطاء.. الطفل المشرد، والطفولة، القرية، المرأة، المطر.. هي تفاصيل العلاقات الإنسانية اليومية البسيطة والمعقدة معًا، كتابة فيها سحر اللغة وإيجازها وبلاغتها، كما فيها من اقتصاد الكلام الذي يتدفق انسيابية إنسانية، وشاعرية ومشاعر وجدانية فياضة وحية، تقول ما يلزم حول ما يجري، والأهم حول ما لا يلتفت إليه الكثيرون ممن يشتغلون بالكتابة.

كان المساح، في كل ما يكتب، يختصر الزمان والحياة في لحظة لا يستوقف الزمن، أو يطلب منه الانتظار، هو يواجهه بزمنه الذاتي الخاص، هو يعيد صياغة الحياة وأنات الزمن، مستدعيًا إياها من أعماق تفاصيل حياة الناس البسطاء، ليقول ما يلزم من القول دون شطط عنف الكلام الأيديولوجي، ولا صخب الكلام السياسي.

من يستطيع أن يحول اليومي والعادي والمكرور من الكلمات/ الكلام، إلى لغة نثرية راقية هي أقرب إلى الإبداع الشعري؛ قطعًا هو إنسان معجز أو شبه معجز، ومحمد المساح في كل لحظاته الزمنية كان معجزًا.. ومبهرًا في سلوكه قبل فكره وكتابته، هو معجز وبسيط لأنه إنسان.. إنسان ينطلق في حديثه دون ترتيب، دون فلسفة أيديولوجية مسبقة للكلام، فالحياة علمته منذ أن كان طفلًا ومزارعًا في الأرض، إلى بياع الجرائد، إلى منظف الصحون في مقهاية الحاج فارع في عدن؛ كل ذلك جعل منه إنسانًا معجونًا بتفاصيل الحياة والناس أو “الناس والأشياء”، وهو العنوان الذي جعله مفتتحًا لبعض كتاباته، قبل أن يستقر على عنوان “لحظة يا زمن”.

هكذا كان يكتب ويتكلم "زوربا اليمن"، حديثه اليومي يجمع بين اللهجة المحلية (العامية) واللغة الوسطى، والقليل القليل من الفصحى لزوم الإيضاح والتوضيح، لذلك نجد رسائله الشفاهية والكتابية وحتى قهقهاته العالية النبرة، تصل للقارئ/ المتلقي والمحاور (المستمع) دون عناء، وبسرعة، هو لا يتصنع في كل شيء؛ في حركته وفي حديثه وكتابته، وفي ملبسه، في كل ذلك يفعل ويقول ما يلزم من القول، في كل المجالس، مع الوزير والغفير، حسب تعبير إخواننا المصريين.

هكذا المساح يوصل ما يحب من الكلام دون ادعاء، إنه يقول فصل الخطاب، وهو حقيقة، وفي الكثير من الأحيان، يتحدث بفصل الخطاب.

من القرية، إلى عدن، إلى تعز، إلى مصر، إلى صنعاء، حتى إعلانه احتجاجه على كل ما يحصل في البلاد (شمالًا وجنوبًا)، بالعودة وللمرة الأخيرة إلى القرية. والمذهل والغريب أنه وهو يعلن احتجاجه، لم يقل ولا كلمة سياسية واحدة، ومع ذلك فهم كل الناس، أن ما قام به وفعله المساح، إنما كان أقوى وأقسى أشكال الاحتجاج الاجتماعي والسياسي والوطني.. فالصمت أحيانًا أبلغ من كل كلام.

رحمة الله تغشاك أيها المبدع الكبير والكثير.. أيها الصديق والإنسان فوق العادة.