جثة طافية! (5)

جثة طافية! (5) - إلهام مانع

"مصر تسبقنا في كل شيء".
هل تذكرون هذه العبارة؟
قالها لي محدثي في دمشق قبل نحو شهرين. وأنا رددت من بعده: "في الخير والشر".
وحديثي حينها كان عن علاقة الارتباط التي جمعت بين مصر وسوريا. جمعهما في القرن التاسع عشر احتلال مصر لسوريا، ومحاولة إبراهيم باشا إدخال إصلاحات اجتماعية تتعلق بأوضاع المواطنين السوريين من المسيحيين، وكانت محاولة شجاعة. بيد أن القرارات غير المدروسة التي تلاحقت من القاهرة بعد ذلك، ومنطق السُخرة، جعلت دمشق تعود عن ترددها، ثم تكسر صمتها، لتعلن رفضها للضيف، الذي أصبح ثقيلاً بعد نحو أربعين عاماً.
تلك علاقة الارتباط الأولى التي جمعت بين البلدين.
الثانية جمعتهما بعد نحو قرن. نعم بعد قرن. وكان فيها سبق، ثم كان فيها ندب. والأهم، أنها أسست لدولة الحديد والنار في سوريا. الدولة الأمنية.
أما الثالثة، فلم تزد عن اتخاذ مصر، كما عادتها، موقف الريادة، لكنها على عكس نبضها التنويري في الثلاثينيات من القرن الماضي، انكفأت في السبعينيات والثمانينيات، إلى يومنا هذا، لتتحول إلى قدوة مظلمة، القدوة في التأسلم الشعبي، تأسلم شعبي لا علاقة له بوجه مصر السمح الضاحك، بل تم عجنه بالفكر السلفي الوهابي، ليتجهم الوجه، وتغيب الابتسامة، ويتحول الدين معه إلى "حالة غضبـ".
 وسوريا، كما نحن، من بعدها، ولو بعد حين.
الثانية إذن هي الجمهورية العربية المتحدة التي نشأت من اتحاد سوريا ومصر طوعاً عام 1958.
أول محاولة جدية لتحقيق حلم الوحدة العربية، لم يكن لها ان تتحقق لولا إيمان النخبة السورية السياسية بالفكرة. آمنوا بها إلى درجة أنهم وافقوا طوعاً على تقديم كراسيهم فداءً لها. ومن الجميل أن تحلم. لكن الأسى كل الأسى أن ترى حلمك يولد ميتاً، لتستفيق عليه كابوساً.
 ليعذرني أصدقائي من الناصريين والقوميين. فحديثي هنا ليس اصطياداً في الماء العكر. لكنه مجرد سرد موضوعي لواقع حدث. وما حدث أن الحلم لم يكتب له النجاح لأسباب عديدة لا مجال لسردها هنا. يكفي القول إن النخبة الناصرية في مصر تعاملت كعادتها مع إخوانها من "العربـ" بقدر كبير من الصلافة والتغطرس، وأن دمشق استفاقت من جديد، لتعود عن صمتها، ولتعلن مرة أخرى رفضها للضيف، الذي أسمته ربا لبيتها، احتجاجاً على استبداده عليها بالرأي. فلم يكن من اللائق في رأيها أن تتحول الوحدة إلى احتلال.
حدث الطلاق إذن. لكن المشكلة أن فترة السنتين وبضعة أشهر من الوحدة تركت بصماتها على دمشق.
أول قرار اتخذه الرئيس جمال عبد الناصر كان "إلغاء الحزبية بكافة أشكالها". وهو قرار قتل براعم الليبرالية الديمقراطية البازغة منذ العشرينيات في سوريا، براعم نبتت رغم حمى الإنقلابات التي أصابتها.
كتمها، فتوقفت عن التنفس.
 مثلها في ذلك براعم مصر، التي طمرتها الثورة المباركة.
وبعد صدور القرار أصبح تأسيس الجهاز الأمني بمؤسساته (المفزعة) الشغل الشاغل للنخبة الناصرية التي تولت إدارة البلاد في دمشق.
وبدلاً من براعم الليبرالية الديمقراطية، نبتت جذور الشمولية الاستبدادية. جذور بنى عليها النظام البعثي السوري بعد ذلك هيكل استبداده.
هذا لا يعني أني أحمّل مصر الناصرية مسؤولية كل المصائب التي حطت على رؤوسنا.
فهل ننسى أفضال السعودية الوهابية التي صدرتها إلينا، وتفريعاتها البن لادنية؟
كما أن فكرة القومية العربية لم تأت منها (أعني من مصر)، بل خرجت من رحمي سوريا ولبنان. جاءت رداً على التطرف التركي، تماماً كما طفرت بدايات الإسلام السياسي كرد فعل على العلمانية التركية وإلغاء الخلافة العثمانية.
ولست ضد فكرة „العروبة" كثقافة، فأنا عربية بعد كوني إنساناً، ولغتي هي أمي. لكني أنفر من التجسيدات السياسية لهذه الفكرة، ناصرية كانت أو بعثية، وتحولاتها (أخشى أن لا مفر من قول ذلك) الفاشية، وأعتبرها واحدة من أهم أسباب المأزق الذي نعيشه اليوم، خاصة عندما يقوم بتطبيق الفكرة مجموعة من العسكر، لم يفهموا من الفكرة سوى حروفها، لكن المعنى لم يفقهوه قط.
أضف إلى ذلك أن القومية العربية لم تأخذ من العلمانية إلا قشورها. لم تطبقها فعلاً. فلو فعلت ما تركت قوانين الأحوال الشخصية (تلك المتعلقة بالمرأة حتماً) تخضع لأحكام الشريعة. عمدت إلى تطوير كل قوانين مؤسساتها، ولم تجد ضيراً في ذلك، إلا عند العائلة والمرأة. وقفت أمامها، حدقت فيها، ثم هزت كتفها، ولسان حالها: „علامَ وجع الرأس؟". كلهم فعلوا ذلك: مصر الناصرية، والعراق البعثي، وخصمه الشقيق سوريا البعثية.
وأظنكم توافقونني على أن الكثير من واقعنا كان سيتغير لو أننا ركزنا على الدولة الوطنية في كل بلد عربي بعد استقلاله، أو نشأته، ثم وضعنا قواعد متينة لمؤسساتها، ثم طورنا من قوانينها وفقاً لمعايير مدنية تحترم الإنسان، ثم أسسنا لليبرالية ديمقراطية علمانية فيها. ووضعنا كل طاقة الصراخ فينا في العمل والتنمية.
كان الكثير سيتغير، لو أننا ركزنا بالفعل على الإنسان، وبنيناه كي يبني وطنه.
لكننا لم نفعل، ياللحسرة!
وبدلاً من أن نبني الوطن، زرعنا بذور الهزيمة، تلك التي نبتت في نفوس أجيالنا. ومعها تركنا الساحة مفتوحة لطحالب التأسلم الشعبي.
نهرب من الهزيمة إلى غيبوبة، نسميها -جهلاً- ديناً.
وسوريا كغيرها من الدول العربية دخلت في دوامة هذه الغيبوبة.
سوريا كغيرها من الدول العربية لحقت بركاب مصر في تأسلمها الشعبي.
سوريا كغيرها من الدول العربية لجأت إلى الدين كسلاح سياسي، أظنه سيرتد إلى صدر نخبتها لو لم تستفق.
لكن هذا موضوع شائك، أعود إليه في مرة مقبلة، وحتى ذاك الحين كل رمضان وقلوبكم عامرة بالمحبة والأمل.
[email protected]