الاحتياج للسياسة.. في وصف تعقيدات مركبة تُعطل الاستجابة لحل جنوبي!

الاحتياج للسياسة.. في وصف تعقيدات مركبة تُعطل الاستجابة لحل جنوبي! - ماجد المذحجي

الاحتياج لإعلان الغضب يميز ما يحدث في اليمن وخصوصاً بالجنوب. لا يوجد شيء محدد يمكن الإمساك به خارج العموميات التي تلعب دورا تهييجيا رغم أهميتها خارج السياق الذي تدفع به الآن للواجهة. وفي كل ما يحدث عموماً يُفتقد للسياسة كلغة تعاقد عام تقع خارج الغضب. الغضب الذي يصبح إيديولوجيا مصمتة تغلق الطريق أمام التسويات، والحصول على الحقوق، وفي الحد الأدنى الاستماع المتبادل.
 في مستوى أساسي أيضاً يتمترس الطرفان خلف "ذعر" متبادل من بعض. ولأن الجميع لم يتمرن على السياسة تبدو المساحة المتروكة بينهم عرضة لاستثمارات الريبة وتاريخ الدم الوطني! إن "الفزع" يهيئ المناخ العام للارتجال أكثر من القدرة على التفكير والاستجابة العقلانية للأحداث والظروف العامة. يتساوى في هذا الفزع الطرفان: الدولة والمحتجون الجنوبيون. ولهذا تكتنز الأحداث المتلاحقة مخاطر حقيقية. جزء أساسي من هذه المخاطر يحتمي بالغموض الذي يخلف إحساسا مريراً ومدمراً بالعجز. إن الافتقاد للحد الأدنى من القدرة على توقع مآل الأحداث يُفسد أي فرصه لابتكار الحلول والتفكير بالخيارات!
 
الافتقاد للسياسة
يحتاج ما يحدث في الجنوب إلى قدر كبير من السياسة كي "يترشد" ولا يصبح عنفا طليقا يمتلك الكثير من الأسباب التي يمكن أن يتغذى عليها. السياسة تُمكن الأفراد من تحويل العنف إلى خيار متأخر، وتوفر لهم إمكانية تحصيل "الحقوق" دون أن تدع الغضب يفسد الحياة أو الفرص. كما أنها أيضاً تحمي السلطة من الاضطرار الأمني العنيف الذي يحضر حين ينسد الطريق أمام السياسة بشده! لم يتبلور حتى الآن مشروع واضح في الأحداث الحاصلة، وينهمك الجميع في ملاحقة الانفجارات الدامية و"لملمة" تداعياتها في سياق الاحتقان الحاصل. ويبدو العنف في مواجهتها خياراً أمنياً غبياً لأنه يستدعي نده لدى الطرف المقابل، حتى لو تم استضعاف "الخصم" حين اتخاذه من صاحب القرار به. ويبدو واضحاً بالفعل وجود إرباك وتقديرات مختلفة في تقييم الأحداث والأفق الذي يمكن أن تسير فيه، وذلك بشكل أساسي حاصل بسبب عدم وجود "رافعة" سياسية لما يحدث في الجنوب، تستطيع توفير خطاب أو مطالب محددة تنقذ الجميع من التشتت والتخمين، مهما كانت سمة الخطاب أو المطالب المحددة، وحتى لو أحدثت تقديراً "مستقراً" يخفض من وطنيتها أو يراها "مغالية" مثلاً. هذا جوهر مهم في "الأزمة" الراهنة ولكنه لا يختصرها، كما أن الأزمة لا تتعلق أيضاً بترديد شعارات مناوئة للوحدة، أو طرح فكرة الحق بتقرير المصير، أو قطع الطرق كسلوك لإعلان الاحتجاج وإيصال الرسائل؛ فهذه "تداعيات" للاحتقان ولكنها لا تكثفه، وليست بالضرورة سقف ما سيصل إليه! يمكن بالتأكيد لوم السلطة بشكل حقيقي على ما يحدث، وإن تم تأجيل النقاش في قدرتها الدائمة على إنتاج الأخطاء ودفنها بشكل لا يخفي الرائحة. يجب التدقيق بجدية في افتقادها القدرة على إنشاء تقييم موضوعي للاحتقان الحاصل، يقع خارج الاختصار المتعالي الذي تلجأ إليه بخفة مؤذية لطمأنة النفس على صواب ما تقوم به! وهو الذي يقصر الأمر بسذاجة في احتقانات محدودة في "رؤوس" البعض، وذلك بالتأكيد نوع من "الطمأنة" السيئة والتقدير السياسي الرديء الذي يقود إلى الكارثة بسعي حثيث وأعمى!
 
في الاحتياج للاشتراكي
 هناك أيضاً نقطة أخرى مهمة تتعلق بالمسؤولية الضمنية للسلطة في تدهور الأمور. تتعلق تلك النقطة بـ"الدأبـ" الذي يميز سعي السلطة، منذ حرب صيف 94، لحصار وتجفيف موارد الحزب الاشتراكي ومقدراته السياسية، وإضعاف بنيته التنظيمية وقدرته على الاتصال العام والعمل الجماهيري. هذا "الإضعاف" للاشتراكي هو السبب الرئيس لعدم وجود رافعة سياسية "واضحة" للحدث الجنوبي تُعطل احتمالات انفجاره التي ينقاد لها الوضع بشدة بسبب عدم تبلور "الاحتقان" سياسياً وانسداد الخيارات! الاشتراكي هو الجهة المؤهلة لعوامل عدة التي يمكن أن تعقلن الأحداث وتطور من صياغتها المطلبية والسياسية المشتتة الآن، وذلك لن يحدث إلا إذا حررته الدولة من الضغوط المتواصلة عليه، وأبسطها حشره في زاوية دفاعية على الدوام تنهكه تماماً، وإذا استطاع هو كفعالية سياسية وتنظيمية ذات امتداد قوي في الجنوب الانسجام مع الأحداث، وتلافي الانقسام الحاصل فيه تجاه توصيف المشكلة الجنوبية وطرق حلها. في تقديري هناك تطور باتجاه تلافي الانقسام الذي "ميزه" سابقاً وبشكل ايجابي في الاشتراكي، ويمكن لمس ذلك بوضوح في البيان الصادر عن ختام أعمال دورة لجنته المركزية الأخيرة. لكن يكمن التحدي أمام الحزب في خلق تحديد واستجابة "ميدانية" لمضامين البيان، يُمكن لمسها سياسياً وخصوصاً من الجنوبيين والسلطة، بحيث تؤدي إلى استشعار وجوده فعلياً واستعادة دور مطلوب منه الآن بشدة. هناك ضرورة حقيقية لتأكيد الدور الجنوبي للحزب، وهذا لا يتنافى بأي مستوى مع تمثيله الوطني الشامل، قبل أن تستولي التشكيلات السياسية الجديدة التي تفرزها الأحداث في الجنوب على رأسمال الحزب الأساسي: تمثيل المطالب الجنوبية! استتباعاً لما تعلق ببيان اللجنة المركزية لا يمكن بالضرورة تجاوز رسالة "مقبلـ" المفتوحة لرئيس الجمهورية، وهي الرسالة التي قامت بعمل إطار وتحديد لبيان اللجنة المركزية، البيان الذي على قوته وأهميته كان فضفاضاً وميالا لتوصيف "الأزمة"، ولم يقم بإنجاز إعلان سياسي "إجرائي" محدد سيعمل عليه الحزب، وإن كان أشار بوضوح لاستجابة مختلفة من الحزب تجاه القضية الجنوبية، وبدء الاندماج بقوة بها. إنها خطوة مهمة، تضاف إلى أخريات مؤخراً، باتجاه إنجاز بلورة سياسية للحدث الجنوبي، ولكونها أيضاً تحدد سقف المطالب الجنوبية وتحميها من التحول "العصابي" نحو نفي مطلق لكل شيء شمالي!

عن تحول الاحتجاجات إلى أزمة!
لست شخصياً ضد أي من الفعاليات الاحتجاجية المدنية التي ينظمها المواطنون في المكلا، وعدن، والضالع، وبعض الأرياف والبلدات الصغيرة في المحافظات الجنوبية، وهي ضمن مستوى مهم منها تمرين للناس على أدوات العمل العام، وتنشئ اعتيادا على الخيارات المدنية، كما تفكك اللجوء "المستسهلـ" إلى السلاح كوسيط تفاوضي يمني مُعتاد. لكن اعتراضي يتعلق بأنها أصبحت تختصر الفعل بأكمله. بمعنى أن التظاهرات والاعتصامات هي وسائل ضغط تستخدم في العمل السياسي، ويستخدمها طرف في الضغط على آخر ضمن مساحة التفاوض والتجاذب بينهما، ولكن أن تصبح هي الهدف لذاتها، بشكل يشبه الإدمان، فذلك يشير إلى غياب أفق سياسي للعمل لدى القائمين عليها (لا يمكن قياس التعليق هنا على الاعتصامات التضامنية التي تدعو لإطلاق المعتقلين فهذه ذات طابع إجرائي وسقفها السياسي منخفض).
 
تعقيدات أمام الحل
هناك مشكلة حقيقية في الجنوب لا تتوفر في "كيس" الحلول السحرية الخاص بالسلطة وصفة خاصة ناجحة للتعامل معها وحلها. المشكلة فضفاضة بقدر ما هي تتعلق بتفاصيل عيانية أدت إليها (الحرب، التمييز، الانتهاك، السلب... الخ). ذلك بسبب عدم وجود ما اعتادت عليه السلطة، أي "رؤوس" سياسية محددة يتم التعامل معها بشكل يضمن أن أي صيغة تُرتب معها سيستجاب لها من الجمهور "الحانق". تتضمن الصيغة المعتادة المقدمة من السلطة مستويات مختلفة من "التنفيع" السياسي والمالي وغيره للمستهدف سواء كان فرد أم مجموعة محددة. ذلك يفقد جدواه في المشكلة الراهنة، ف"الرؤوس" الحاضرة مؤخراً في الفعاليات الاحتجاجية، أو في الصحف، لا تتعدى قدرتها التهييج والحشد في اعتصامات بأعلى مستوى قد تصل إليه (ليس هذا انتقاصاً من قدرها أو قدرتها، بل هو مجرد توصيف ورأي شخصي في سياق النقاش والتحليل قد يكون مخطئاً)، ولكنها لا تتحكم فعلياً بكل الحراك، ولا تسيطر على كتل مهمة في التمثيل الجنوبي، وامتدادها السياسي حديث وضعيف، وليس قديما ونافذا. بالتالي فإن "تنفيعها" غير مُجْدٍ إذا كان يُمكن لها أن تستجيب له. إضافة إلى أن النبرة الاعتراضية على السلطة عالية، وارتفع سقف الشعارات المطروحة في زمن قياسي منذ بدء خروج الأزمة من مستواها الصامت إلى صيغتها الحاشدة الآن. كما أن هناك عدم تحديد سياسي واضح، خارج شعارات التظاهرات، حتى الآن. وكل ذلك يجعل الصيغة القديمة والمعتادة من حلول السلطة غير مجدية في هذا التوقيت!
هناك تعقيد إضافي يُضاف للأزمة، وبالتالي يضاف كعائق أمام إمكانية حلها، ويتعلق بالذعر من لاعب خارجي يمكن أن يتدخل في الأحداث. تبدو السعودية بشكل أساسي الطرف المحتمل، إن لم تكن قد بدأت بالفعل كما تفصح عن ذلك أكثر من إشارة: التحول الأخير في طبيعة التناول الإخباري للحدث الجنوبي في القنوات الخاضعة لخطها السياسي (قناة العربية)، وملامح الجفاء بين الحكومة اليمنية والسعودية الذي على إثره ألغي الموعد المقرر لاجتماع مجلس التنسيق اليمني السعودي في جدة، وهو التوتر الذي تبدو خلفيته لائحة بشدة في الجنوب اليمني. إن السعودية مستثمر تاريخي في الأزمات اليمنية، ويتم توظيف الأزمات المختلفة من قبلها، الناتجة من عدم احتمال السلطة لشركاء وطنيين وسوء إدارة الحكم والتنازع حوله، لانتزاع تنازلات مختلفة من الدولة اليمنية، وهي تنجح بذلك لأسباب عدة، منها: الإمكانيات المالية الهائلة لديها، ارتباط العديد من مراكز القوى اليمنية بالقرار السعودي بفعل تاريخ طويل من المصالح، وتواجدها الكثيف في مختلف مستويات المشهد اليمني بغرض التأثير به وفق سياق مصالحها. فيما يتعلق بالجنوب فهي تمتلك أيضاً الكثير من الفرص: تحتضن السعودية على أراضيها القوام الأساسي للكتل السياسية القديمة التي خرجت من الجنوب عقب الاستقلال، وتستضيف لديها أسماء سياسية جنوبية مهمة. إضافة لذلك يبدو الاغتراب الحضرمي الأساسي قائماً في السعودية، وهو يمتلك كتلة مالية هائلة يمكن توظيفها في أي شأن، ومصالحه الأساسية متداخلة تماماً مع التقديرات السياسية السعودية. بالطبع هناك الكثير غير ذلك، ولكن ما تم تناوله يشير إلى ما يتوفر من فرص هائلة للسعودية للتدخل في اليمن وفي الحدث الجنوبي الأخير بما يبرر القلق من دور قائم أو محتمل لها فيه. وهو الأمر الذي يفاقم من الارتباك في إنجاز حل ناجع للاحتقان الجنوبي، ولا يوفر للسلطة سوى استجابات ضعيفة بالمعنى السياسي (إقرار خجول وناقص ببعض مظاهر الأزمة، قرارات إدارية غير مكتملة لمعالجة بعض مشاكلها، وحلول أمنية سيئة موجهة لقمع المحتجين، وتعزيز الرمزية النضالية لخصومها باعتقالات خارج القانون ومحاكمات ممسرحة... الخ). يُضاف إلى التعقيدات أمام الحل مقابلة الاحتقان القائم بلغة الاستعلاء الوطني بهدف إضعاف الموقع "الأخلاقي" للخصوم وتبرير أي إجراءات ردعية قاسية بحقهم. والمشكلة فعلاً أن هذه اللغة هي احد الأسباب الرمزية المهمة في الأزمة الجنوبية، وتلعب الآن دوراً تهييجياً بشدة لمظاهرها المختلفة. وسيكون كارثياً بالفعل الاستمرار في الإعدام المعنوي للمحتج الجنوبي عبرها.
maged