الحل جنوبي

الحل جنوبي - سامي غالب

يمكن قراءة الاجراءات القمعية التي اعتمدتها السلطات في الأيام الماضية، للتعامل مع «المسألة الجنوبية»، على أنها إشارة يأس.
عندما تستنزف أية سلطة الوسائل السلمية لاحتواء مطالب فئوية أو شعبية، تلجأ إلى إعمال أدواتها الإكراهية. ولا جدال في قدرة الحكم على إلحاق أكبر قدر من الأذى المادي والمعنوي برموز الحركة الاحتجاجية المتنامية في المحافظات الجنوبية والشرقية.
يومي السبت والأحد (1، 2 سبتمبر) ظهرت هذه القدرة سافرة، في مدينتي عدن والمكلا. واعتقلت قوات الأمن معارضين بارزين واقتادتهم من منازلهم إلى ظلمات الزنازين.
ولئن عُلمت الوجهة التي اقتيد إليها المعتقلون، فليس بوسع أحد، بالنظر إلى المعطيات المتاحة والمنحى التصاعدي للاحتجاجات، أن يقطع بالوجهة التي يسير إليها البلد. وليس هناك ما هو أخطر على مصائر المجتمعات من شيوع «اللايقين» في أوساط نخبها السياسية، في الحكم والمعارضة.
والشاهد فيما يجري في المحافظات الجنوبية والشرقية هو ذاك التداخل في الصور، في منظار الحكم، في قضايا تقع في صميم الأمن القومي.
والأكيد أن الالتفات عن مطالب الناس المعلنة منذ سنوات في هذه المحافظات، واعتماد خطاب تهويني حيال معاناتهم، مقابل التهويل من مؤامرات خارجية ودعوات شطرية، هو الوسيلة المثلى لتفخيخ أية محاولات لتدارك الانحدار في العلاقة بين السلطة وسكان المحافظات الجنوبية والشرقية.
أياً تكن دوافع الحكومة والسلطات المحلية لإعمال أدوات الإكراه المادي ضد مواطنين عزل ومسالمين، فمن الثابت أنها بذلك تقوِّض فكرة الدولة من وجدانهم ، وتكرِّس البعد الجنوبي، بمعنييه الثقافي والجغرافي، كبعد حاكم وحاسم في حركة الاحتجاجات المستمرة، خصوصاً وأن أحد أسوأ تداعيات حرب 1994، أنها ألحقت تشوهات عميقة في الخارطة الديموغرافية للجيش والأمن، ما يجعل أي خروج لقوات الأمن والشرطة والجيش لمواجهة شارع يغلي و«يكاد يَنفضُ عنه كل الزراكش الوحدوية والوطنية»، محض مواجهة بين الشمال المستكبر بالقوة العارية والجنوب المستضعف بالحرب الإقصائية.
 حان الوقت لتستجيب النخبة السياسية في الحكم للتحدي الجنوبي، ليس بالقمع ولا بالاستعلاء ولا بالتهوين أو بالتعامي بعزو الالتهاب الحاد في الوجدان الوطني إلى محض مشاريع صغيرة لمعارضين موتورين أو مندسين مرتبطين بدوائر خارجية. كلا، بل بالاعتراف بالظلم الذي وقع على المحافظات الجنوبية والشرقية جراء حرب 94، والتعاطي بالحساسية الفائقة والحس السليم، مع مطالب شعبية، أثبتت تطورات الأسابيع الأخيرة إنها تمثِّل قطاعات عريضة من سكان هذه المحافظات.
إن القسر والترويع ليس من شأنهما إلا أن يراكما مخزون الغضب لدى المحتجين. وإن كان لا مناص من استدعاء مشهد دخول «قوات الشرعية» إلى مدينتي عدن والمكلا قبل 13 سنة، فلغرض استيعاب الدرس جيداً، فالقوة التي استخدمت سنتذاك كانت مموهة بمطالب وحدوية تحظى بتأييد قطاعات واسعة من السكان، ومع ذلك فإن مستخدميها أساءوا إدراك حدودها، فراكموا سنة تلو سنة، الأخطاء، ليجردوا القوة من كل شعار، وها إنها تظهر في مدينتي عدن والمكلا عارية من أي دثار.
تحول 7 يوليو في دوائر القرار وملحقاتها الى مبتدأ الوحدة (التي تعمدت بالدم) ونهاية التاريخ. في هذا «اليوم الأغر» استطاب الحكم السكنى، وبروحية الجماعة المنتصرة تحول الجنوب إلى «أرض أحلام» الفاسدين، وموضع تنافس النافذين، وموئل الباحثين عن النفوذ والامتيازات، فاستحالت الوحدة الى مجرد تمدد وتوسع لاقطاعية الحاكم، على حد تعبير مبكِّر لعبدالله البردوني.
ومُذ تسيدت هذه الروحية، فرَضَ السلاح نفسه كأداة أساسية، وأحياناً وحيدة، في التعامل مع المطالب المتراكمة (قديمها وجديدها). وحيال أية دعاوى أو احتجاجات، كان رد المقيمين في سدرة المنتهى نغمة وحيدة: «ما بوسع هؤلاء أن يفعلوا وقد عجز من كان بحوزته صواريخ سكود وطائرات ميج29؟».
باسم الثوابت تم تمثيل الطرف المهزوم على هوى المنتصر، وأعيد تعريفه، وتأويل خطابه مراراً، بقصد طمس أية خصوصية يتدرع بها. وعوض المسارعة إلى تعويض الانكشاف السياسي الناجم عن إقصاء الاشتراكي من الحكم، فاض مخزون العصبية والفساد لملء كل شاغر خلَّفه الطرف المهزوم. وفي الموازاة تم تنميط انبعاثات «المسألة الجنوبية» باعتبارها محض ظاهرة احتجاجية اعتيادية شهدتها مناطق يمنية أخرى. هذا الميل إلى تنميط الظواهر الاجتماعية سائد لدى النخب السياسية والثقافية اليمنية التي نشأت في عوالم التجريد، وما تزال تستنكف الاشتباك بالعالم الحقيقي.
ولأن التجريد سيد العنف، فقد تضافر الخطاب التجريدي والقوة المجردة لنزع الخصوصية عن الجنوب: المكان والبشر (الجغرافيا والتاريخ). وما كان لهذا إلا أن يعزِّز الخصوصية ويطبعها بالحدة، ويعمِّم الشعور بالإقصاء إلى شرائح عريضة من السكان. وبدلاً من الشراكة التي طلبها الاشتراكي وحلفاؤه، جرى إشراك قيادات اشتراكية سابقة (وبينهم بعض من تحمسوا للانفصال) في مواقع هامشية توفِّر لأصحابها امتيازات صغيرة. فضلاً عن ذلك فقد باءت بالفشل كل المحاولات لتوليد نخب جنوبية جديدة تؤدي في مناطقها وظائف مماثلة لتلك التي يؤديها منذ مطلع القرن العشرين الوكلاء المحليون للسلطة في المحافظات الشمالية والغربية.
استطراداً، فإن السعي الحثيث (والمحمود) للسلطة لتوكيد شرعيتها بالانتخابات، لم يرتِّب تغييراً ملحوظاً في المزاج الجنوبي. فعلاوة على الإحباط المتنامي بين اليمنيين عموماً من نجاعة الانتخابات كمدخل للتغيير الديمقراطي، تموضعت الانتخابات -جنوباً- بوصفها عملية إجرائية لتثبيت الأمر الواقع الذي صنعته الحرب. على أن هذا الموقف الدوغمائي من الانتخابات توارى أحياناً في واقع يفرض على الجميع، بمن فيهم تيار إصلاح مسار الوحدة (الاشتراكي) التكيف مع حركيته وقوانينه وتحدياته اليومية. كذلك فإن النخبة التي تقود الاحتجاجات وتبلور مطالبها بالتجريب وردات الفعل، حتى وهي تقولب شعاراها ومقولاتها، راحت تطور آليات تكيف مع افرازاته. يمكن التقاط هذا التكيف الاضطراري في تصريحات الرموز الحركية للمتقاعدين، والتي تتعمد تحييد ممثلي دوائر الجنوب في البرلمان والمجالس المحلية. ما قد يعني أن هؤلاء «الحكماء» يراهنون على اصطفاف جنوبي يمهِّد سلمياً لمضاعفة الحظوظ عند أي حوار مع الحكم، بلوغاً في نهاية المطاف إلى المواطنة المتساوية في ظل الدولة الواحدة.
عند هذا الحد يمكن تأويل النزعة الجنوبية الجامحة لدى ناصر النوبة وحسن باعوم ومسدوس وآخرين، على أنها محاولة مستميتة لاظهار «النقاء الجنوبي» تمييزاً (وليس فصلاً) للمسألة الجنوبية عن أية أزمات أخرى. للدقة هي هجوم مضاد لتظهير «الخصوصية الجنوبية» في وجه من يريد طمسها.
ولئن بدا هؤلاء «الحكماء» حفنة حالمين (وأحياناً مجانين) في عدسات النخبة الحاكمة وغالبية المعارضة، فإن الضفة الأخرى تعجُّ بالحمقى الذين يتوسلون تعويض مطلب «المواطنة المتساوية» بالطنطنة اللفظية عن الوطن النهائي. وإذ يصدرون من مفهوم مثالي (غيبي) للوطن بما هو جوهر، لا يتورعون عن تصدير مشاريع قوانين لحمايته، في تراجع فوري دال على هشاشة معتقداتهم.
إن الدولة المستبدة المرتكزة على العصبية والغلبة، كانت على الدوام أكبر عامل تحريف للوطنية اليمنية وأخطر تهديد للوحدة الوطنية، ولشد ما يمقت اليمنيون «الدولة الغالبة» حتى وهم يتباهون بيمنيتهم ويعتمدون تعريفاً حصرياً (بدائياً وعنصرياً) للجماعة اليمنية.
الشاهد، فيما يجري جنوباً، هو إمكان تنزيل الوحدة الوطنية من عليائها إلى تفاصيل الحياة اليومية لليمنيين عموماً، والجنوبيين على وجه الخصوص. وإلا هل كان بمقدور أحد في العاصمة أن يتصور فداحة المأساة التي دُفع إليها عشرات الألوف من المتقاعدين (والمنقطعين) الأمنيين والعسكريين والمدنيين، لولا أنهم بادروا إلى تنظيم أنفسهم ذاتياً؟
عدا هذا، وبمعزل عن أية أحكام قيمة بشأن ما يصدر من شعارات حادة وتصريحات خشنة، عن رموز حركة الاحتجاج، فإن لهذه الحركة «منافع للناس» اليمنيين، أولاها أنها ارتكازاً على تفاصيل (وليس مجردات!) من آثار حرب 1994 الفادحة، أعادت طرح الأسئلة الكبرى (الكلِّيات) بالصيغة التي تساعد على إدارة حوار حقيقي حولها. فإلى «الوحدة الوطنية» المتصدعة بالعنف والقسر والترويع والإرهاب و(أخيراً) بمشروع قانون فاشي، استجلبت إلى الواجهة النقاش حول أبنية المؤسستين العسكرية والأمنية ووظائفهما، وفرضت على الجميع بحث استحقاقات المستقبل، بإجلاء المخاطر المترتبة على اهتراء النسيج الاجتماعي، وتآكل التجانس البشري، وبخاصة إهدار إمكانات التنمية، وتفويت أية فرصة لاستثمار المزايا النسبية لليمن (وهي في اللحظة الراهنة جنوبية في غالبها) في البيئتين الاقليمية والدولية. بل إن الانفكاك من «حالة الدوار» الجغرافي التي تطبع السياسة الخارجية لليمن رهن بالطريقة التي ستُعالج بها آثار حرب 1994.
إلى ذلك، فإن الحركة الاحتجاجية الجنوبية من شأنها في حال حافظت على ملمحها السلمي، أن تشكِّل نقطة قطع في التاريخ اليمني المرصَّع بالحروب الداخلية الدامية والانقلابات العسكرية وحركات التمرد المسلحة.
بكلمة واحدة؛ لا يمكن تصور مخرج لليمن من أزماتها الطاحنة، إلا بتقليل أثر امتيازات الوحدة بالحرب، وتعظيم حضور مزايا المحافظات الجنوبية والشرقية في بنية النظام السياسي ذاته.
 بالتخلص من امتيازات بعض الشمال، والتشبث بمزايا كل الجنوب، يمكن لليمنيين الإمساك بمستقبلهم.
حانت ساعة الاعتراف. وبعد الاعتراف فإن الحظ قد يحالف النخبة الحاكمة ومعارضيها، فيهتدون إلى سبل تجاوز المحنة المقيمة، والخروج بالوطن إلى دولة الحق والمواطنة، إلى المستقبل الذي لا طريق إليه إلا بهذه المحافظات وعبرها.
Hide Mail