لحظة يا زمن.. محمد المساح!

محمد المساح ذات صباح(شبكات التواصل)
محمد المساح ذات صباح(شبكات التواصل)

في تسجيل حديث نسبيًا، يقول الراحل الجميل محمد المساح بأن "الناس الذين يبحثون عن قضية.. دائمًا يموتون غرباء، ولكن يتذكرهم التاريخ بعد حين، حين لا ينفعهم الحين!".

يموتون غرباء، هنا أكبر من المعنى المباشر للموت في الغربة، بل يتضمن بدرجة أساس الموت غرباء في أوطانهم، ويتضمن أيضًا الموت في الحياة عندما يكون الإنسان غريبًا عما يجري بعد عمر من الكفاح، فلا يرى من حوله سوى قوى الظلام التي كافح ضدها طيلة عمره وبدت له في وقت من الأوقات أنها في انحسار، ولكنها ما لبثت أن استولت على كل شيء من لقمة عيش المواطن إلى حرية كلمته وما يكتب!

مذ عرفت نفسي في الحركة الطلابية والوطنية اليمنية في مدينة تعز، كان المساح اسمًا ننظر إليه بود وانجذاب منذ كان رئيسًا لتحرير صحيفة "الثورة"، وكنت أنا تلميذًا في سنوات المرحلة الإعدادية، وكان عمود "لحظة يا زمن" بالنسبة لجيلي أهم عمود نتابعه منذ صدوره في منتصف السبعينيات ونحن في المدرسة(١)!

كان المساح يبحث عن قضية وطنه ووطن اليمنيين أجمعين، وكان رمزًا من رموزها الخالدين، فقد تمكن من مخاطبة الزمن منذ منتصف السبعينيات حتى رحيله، مخاطبة الزمن، وجعله يقف عند كل عمود كتبه قائلًا له: لحظة...! لحظة يا زمن! كان يوقف الزمن للحظة حتى يجعله يستمع إلى المساح ولو لبرهة قصيرة بطول عموده الأسبوعي، ذلك العمود الذي عاصر ٤ رؤساء قبل نكبة ٢٠١٥، العمود الذي توقف حين سطا الظلام على الصحيفة في ٢٠١٦، فهل مات المساح غريبًا؟ نعم ولا! نعم.. كان غريبًا عن حلمه وكفاحه وآمال شعبه التي لم تتحقق، بل تراجعت إلى الوراء كثيرًا، ولا.. لم يمت لأنه مازال وسيظل حضوره يعيش بيننا وتعيش كتاباته أبد الآبدين، ومهما طال الزمن أو قصر، سيأتي المستقبل المنشود، وستنكسر قوى الظلام، وسيقف زمنها ويكون المساح قد أسهم في مسح زمن الظلام، فيجيء الضياء ليدوم في زمن اليمنيين أجمعين!

اختار المساح في آخر أيامه أن يعود رعويًا (الصورة) بسيطًا، فيتوارى عن الزمن ولحظاته كلها، ويتركنا نعافر (نصارع) هذه اللحظات، ولا يبدو لهذه المعافرة من نتيجة ظاهرة على الأقل في هذه اللحظة، ولكن التاريخ يقول لنا بأن المستقبل المنشود آتٍ لا محالة(٢)!

سنتذكر المساح الآن، وليس بعد حين، وصحيح أن هذا التذكر لم ينفع الراحل المساح في غربته داخل الوطن، مثلما لم ينفع من تذكرناهم ونتذكرهم ممن فارقونا، بخاصة الذين رحلوا بعد معاناة صحية أو مادية، ولم يلتفت إليهم أحد، وهذه حقيقة، ولكن تذكرنا لهم ينفعنا نحن وينفع الأجيال التي ستصنع المستقبل، لأن كفاح الإنسان تراكمي، وتجارب الإنسان وخبرات البشرية تراكمية، وبهم وكفاحهم وبنا وفعلنا وما ستفعله الأجيال القادمة سيُخلق الوطن المنشود! هي مسألة وقت!

رحم الله الأستاذ محمد المساح، وطيب ثراه، ورحمنا جميعًا بذكره وذكراه، فمن الناس حين يُذكرون يحضر الرضا، وتهب نسمة عطرة طيبة جميلة، فيخال لنا أنهم بيننا أحياءٌ يرزقون!

هوامش:

١. قد يستغرب القراء كيف كان لنا كتلاميذ في سنوات الصبا، سنوات الإعدادية (مدرسة الشعب -تعز)، كيف كان لنا نشاط طلابي وسياسي ووطني في ذلك العمر، فقد كنا ننخرط في العمل الحزبي والسياسي من وقت مبكر جدًا بالمقارنة بأجيال اليوم، نعم لقد كنت ورفاقي منخرطين في الحزب الديمقراطي اليمني منذ سنوات الإعدادية، وشاركت في كل الأحداث والتظاهرات التعزية في السبعينيات، بما في ذلك المصادمات مع السلطة في زمن القاضي الإرياني، وأخرى أقل تصادمًا في زمن الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي رحمهما الله!
٢. لن نتوقف عن مصارعة الباطل، وبالرغم من علمنا أن المستقبل القريب لن يكون هو المستقبل المنشود، ولكن على الأقل نطمح أن تتوقف الحرب رسميًا (هي واقفة عمليًا)، ويتفاهم الأطراف (على قبحهم) على صيغة تقاسم للكعكة والسلطة، ويتركوا خلق الله تتنفس السلام والعيش! ولأن المستقبل القريب سيظل تحت سلطة قبحاء اليمن من كل الأطراف، فلا بد لنا أن نركز على المستقبل متوسط وطويل الأمد، وهذا ما يجب أن نعمل جميعًا من أجله، وقد سبق أن كتبت في الموضوع، وسأكتب عنه في قادم الأيام!
٣. من مفارقات الزمن أن انشغالي بلقمة العيش هذه الأسابيع القليلة، لم يتح لي أن أواكب الحدث فأكتب راثيًا الراحل محمد المساح في لحظة الزمن المناسبة، ولكن الرثاء كان موجودًا في القلب من أول لحظة زمن علمت فيها برحيله رحمه الله وطيب ثراه!

* نقلاً عن صفحة الكاتب في الفيسبوك