«.. أواقتلوه.. ».. الدولة التسلطية بين التعذيب والقتل

في الشهر الماضي ظهر سيف الاسلام القذافي ليعلن أنه كان أول من ذكر في بيان لإحدى مؤسساته أن الطبيبات البلغاريات والطبيب الفلسطيني «حجحوج» عُذبوا، وبالكهرباء بالتحديد، وافتخر بأن ليبيا حققت مكاسب كثيرة من القضية: الملايين وبعض الأسلحة... الخ، ولم يتردد في القول إن الإهمال ربما كان السبب في إصابة الأطفال بالايدز، في إشارة الى أن مستوى النظافة والتطبيب في «العظمى» متدن إلى هذه الدرجة.
الحديث كله مزيج من الزهو المرضي الذي يفصح عن نرجسية الابن التي هي استمرار لـ«عظام» الأب، ومن «الكلبية» التي تزدري الجميع دون استثناء الليبيين والعرب وكل شعوب العالم. إنه تعبير أمين عن العاهة الأخلاقية للساسة العرب في المشرق والمغرب، فليس لديهم الحد الأدنى من التعاطف مع آلام الغير، إذ يبدو كل آخر وكل شيء وكل قيمة وسيلة لما يرونه مجداً. والإنسان، أي إنسان، وسيلة ولا يمكن البتة التفكير فيه بما هو غاية في ذاته. إن حوسلة (جعله وسيلة حسب نحت الزميل عبدالوهاب المسيري، له طيب العافية) الإنسان ليس امتيازاً إمبريالياً أو صهيونياً حيث الحكم للتسليع في إطار التصور والسلوك الامبرياليين، فهؤلاء الذين يدورون في فلك التبعية يقومون بأعمال أشد قذارة من سادتهم، وإلا ما قبلت غير دولة عربية تعذيب مواطنيها ومواطني بلدان أخرى، ممارسة بذلك تعذيبهم بالإنابة، لينجو السيد الرئيس المسدس بعرشه من المسؤولية، ويدلِّل في الوقت نفسه أنه ليس الوحيد المسؤول عن غوانتانامو و أبو غريب وباغرام. إن أبناء آوى يشاركونه في تمدين العالم العربي والاسلامي.
التعذيب في البلدان العربية لم يتميز بالفجور والعدمية والافراط في القسوة المجنونة إلا في دولة ما بعد السيد الانقلاب. في كتاب نادر في بابه قدَّم الباحث والناقد الأدبي نبيل سليمان (سورية) في رسالة ماجستير في الثمانينات صورة مقارنة بين التعذيب الذي كان سائداً في دول الاستقلال، وذلك الذي ظهر في دولة الانقلاب العسكري، وكانت المقارنة تعتمد على الروايات المنشورة في العهدين. فاتضح أن الارتفاع بالتعذيب الى مصاف العقيدة جاء مع هذه الدولة، والقراء العرب يعرفون «شرق المتوسط» للراحل عبدالرحمن منيف و«السفينة» للراحل جبرا ابراهيم جبرا، وكذلك «العسف» لبشير الحاج علي شهيد الحزب الشيوعي الجزائري. لم تشمل الأنموذجات على روايات من سورية.
وفي اليمن السعيد جاءت مع الحملة المصرية فنون التعذيب العصرية، ومدَّها الجار السعودي بالمال والخبرات الأجنبية، هذا في الشمال. أمَّا في الجنوب فقد ظهرت بعد الاستقلال مدرسة ألمانية شرقية تحت علامة تجارية سوفيتية (لجنة أمن الدولة) واجهها الجهاز المركزي للأمن الوطني بخبرات واستشارات إيرانية وألمانية غربية.
 كتبت في بداية المرحلة الانتقالية للوحدة الميمونة في «صوت العمال» مطالباً بإخضاع جهاز الأمن للبرلمان بعد إعلان حل الجهازين، وكنت أدرك أن السلطة/ السلطان، ستقاوم (سيقاوم) أي مساس بالأمن الذي يأتي بعد الجيش في تراتبية الدولة الأمنية. ولأن الجيش يقوم بدور الشرطة في القمع الداخلي مستبدلاً ذلك بوظيفة الدفاع عن الحدود، فإن الأمن هو الذي يتوحد بالنظام السياسي وحزبه الحاكم الى درجة يتعذر معها معرفة الحدود بين الحزب الحاكم والأمن والسياسة، كما حدث في التجارب القدوة في مصر وسورية والعراق الشقيق جداً. ظن بعضنا أن تلك المطالبة مبالغة في سوء الظن بصانعي الوحدة، وذلك في غمرة أو سكرة فعل سياسي صورته الايديولوجيا على أنه ذروة من ذرى التاريخ النادرة في الجزيرة والوطن العربي والعالم، فروح عمرو بن كلثوم لا تعرف الحدود إذا ما تعلق الأمر بخوارق القبيلة.
توسع الجهاز بعد 94 وزاد العاملون فيه بالتزامن مع توزيع عضوية المؤتمر الشعبي، فقد كان هضم وجبة الجنوب، الذي قدَّر له أحد ساسة المؤتمر (الإرياني) عشر سنوات، يقضي بذلك. ولكن التغير الحاسم جاء على يد أمريكا فقد الزمت «الحليف» التابع بعد حادثتي «كول» «لومبرغ» باستحداث الأمن القومي فاصبح الضلع الثالث إلى جانب الدائرة الأمنية في الرئاسة التي كانت نسخة من إدارة مماثلة في قصور الرئاسة ببغداد.
ثبت في جميع الحالات، في الشمال والجنوب، أن الجلاد في تلك الأجهزة يستطيع تعلم الاستفادة من علوم العصر بالتدريب الحي قبل أن يعرف جدول الضرب في مجتمع تتوحد فيه السياسة بالقتل، حيث قربه من الفطرة التي يباهي بها لا يعني إلا أنه لم يمر بمدارج التطور التي أخرجت غيره من تجهم التعصب والتمركز في الذات إلى رحاب معرفة الآخر والمقدرة على التعاطف معه ونسج علاقة إنسانية سوية يكون الانسان فيها مرآة أخيه كما في قول جميل للرسول الكريم عن المؤمن.
بتر السبابة أو الابهام الذي هُدِّد به الزميل الخيواني قبل أيام يمتح من المدرسة العربية التي أنشأها الانقلاب العسكري في الدولة العربية السلطانية التي وإنْ تنوعت ديكوراتها فجوهرها واحد، تلتقي مكوناتها في جعل القوة العمياء أساس الدولة والمجتمع، وهي بمثابة علة وجودها، والفساد نظامها، ورُهاب الأمن الشخصي لسلطانها محرِّك الحياة السياسية الذي يضبط إيقاعها، وليس مصادفة البتة أن يكون التوريث تاجها فيصدق في حالها قول الشاعر القديم وهو يرى مجد الخلافة يتبدد بالتوريث في الملك العضوض: «فيا لك أمة ذهبت هباء.. يزيد أميرها وأبو يزيد».
عندما قُتِل الصحافي اللبناني سليم اللوزي صاحب مجلة «الحوادث» البيروتية في عهد الأسد الأب، لم ينس قاتلوه حرق أصابع يده اليمنى. وقبل نحو ثلاثة أعوام وُجد الصحافي الليبي «غزال» مقتولاً وقد بُترت أصابع كفه في اليد اليمنى.
رُهاب الكلمة يلازم كل الطغاة وكل من يحلم بالاستبداد، فقد طرد أفلاطون من دولته (الجمهورية) الشعراء، بل ذهب في كتاب «القوانين» الى حظر تغيير قواعد اللعب والرقص، لأن تعود الخروج عن النص، أو عليه، تمرين على الرفض ونشدان الحرية. ولكن ذلك الرجعي العظيم لم يكن ينطوي على الظلام الشرير الذي يعربد في جوانح قادة الانقلابات العسكرية الشوس.
عندما قال سارتر إن التعذيب ليس فرنسياً، كان محقاً ولم يقصد الدفاع عن الجلادين الفرنسيين الذين جرَّم فظائعهم في الجزائر وفرنسا. ولكنه ليس غريزة أيضاً. إن جعل التعذيب غريزة أمر لم يثبت علمياً. إنه نتاج اجتماعي وثقافي لمجتمعات الاستغلال وصراع الطبقات. والذين يحاولون إيجاد مبررات لهذا النوع من الصراع يهملون الوقائع والحقائق التي يوردها «دارون» عن التعاون والسلام بين الأنواع، ويركزون على مبدأ الصراع والبقاء للأصلح في الدارونية الاجتماعية التي وظفت لخدمة اغراض سياسية صريحة. وقد رُشد الصراع الاجتماعي في مجتمعات كثيرة، فلم تعد المجتمعات الأوروبية التي كانت تعتبر التعذيب والإعدام العلني الذي كان بدوره نوعاً بشعا من التعذيب يعلن القوة اكثر مما يتوخى العقوبة، أمراً طبيعياً وضرورياً للأمن الاجتماعي. أصبح تعذيب الانسان بل العقوبة القاسية أمراً مستنكراً، وتوسع هامش الرحمة حتى اصبح متناً، والغاء عقوبة الإعدام تعبير عن التعاطف والرحمة وإقرار بنسبية البشري.
ونجد في تاريخنا الفكري والثقافي معالم رائعة للاقتراب من مبدأ الإنسانية. النبوة أو الدين أساس تلك الثقافة، وكان الانسان في المجتمع غاية، والهدف سعادته في الدنيا والآخرة. ومن هنا التحريم المطلق للقتل العمد، والعقاب لا يقر الثأر والتمثيل بالمقتول. ولعل ما جاء في كتاب «الخراج» لأبي يوسف، يمثل أفضل استمرار لوصايا الرسول والخلفاء الراشدين لاسيما أبي بكر وعلي: «الأسير من أسرى المشركين لابد أن يطعم ويحسن إليه حتى يحكم فيه، فكيف برجل مسلم قد أخطأ أو أذنب، يترك يموت جوعاً، وإنما حمله إلى ما صار إليه القضاء أو الجهل». والوصايا التي قدَّمها مذهلة: عدم إيذاء الاسرى، وإطعامهم وإلباسهم، عدم تركهم مقيدين بالسلاسل يتجولون في الشوارع ليتسولوا، منع ضربهم* لأن رسول الله «نهى عن ضرب المصلين». وقد شكا أبو يوسف من البطء في إجراءات العدالة، ورفض السجن الوقائي. (الخراج ص149).
وأما موقفه من الحدود فقد أخذ فيها بمبدأ مفاده أن «الشفاعة مباحة طالما أن الجاني لم يصل الى الإمام»، واستند في هذا إلى توسط الزبير والإمام علي لسارق. وحرص أن يروي عن عائشة أم المؤمنين «إدرؤوا الحدود عن المسلمين بالشبهات، ما استطعتم، فإن وجدتم مخرجا للمسلم، فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة».**
كان الورع قوة كابحة للضعف البشري الذي يغري بالفتك بالخصم. وكان الأتقياء من الكوفة والبصرة والخوارج ينتصرون للضعفاء ويساندون الموالي المستضعفين وكذلك أهل الذمة.
وقد نما في نفوس الشيعة شعور عميق بالعطف والشفقة بعد مقتل الحسين وأهله وصحبه في كربلاء. ويكاد عندهم يناظر فداء المسيح البشرية عن المسيحيين.
 أما التصوف فقد أبدع ذروة في التعاطف والمحبة والكونية في إطار وحدة الوجود والشهود، فتأكد فيه نزوع إنساني نحو مذهب يجعل الانسانية مرجعاً. وأدرك المفكر الايطالي الفذ غرامشي انطونيو «أن الصوفية هي حركة التجديد في الاسلام»***. وقد التقى في أفق التصوف كل صانعي الثقافة العربية. كان المتصوفة أكثر قدرة على فهم المعاني الانسانية السامية التي ترد في عدد من أحاديث الرسول الشريفة ومنها حديثه عن المرأة التي دخلت النار في قطة حبستها فهي لم تطعمها ولم تتركها تصيب طعاماً.
ليست الإمامة وحدها هي التي أحدثت قطيعة مزدوجة مع تاريخ الاسلام، لاسيما النبض العقلي للاعتزال، الذي رافق نشأة الزيدية، ومع العصر، فكل المجتمعات العربية تعيش هذه القطيعة المزدوجة عن العهد الكلاسيكي لثقافتنا، أو ماوصفه المستعرب الفرنسي لوميار بـ«الإسلام في عظمته الأولى»، وعن العصر. هذه القطيعة المزدوجة في أساس تدهورنا الأخلاقي، الذي يحتضن فظائع التعذيب. أصبح الحاكم، وإلى حد كبير المحكومون، خاضعين لغرائزهم وكأنهم جميعاً تبنوا ذلك القول القبيح: «الدنيا فم وفرج»، وسعرت دولة الريع النفطية انفلات الغرائز.
إن الجمهورية القبيلية التي ورثت الإمامة إنما هي إمامة معكوسة، أو مضادة، أسقطت المسوح المذهبية وأخذت تنهل من «قوانين» طاغوتها الخاصة، فتضاعفت قطيعتها مع تاريخنا، لأنها بالانقلاب العسكري استمرار لدولة الجند السلطانية، وأما العصر فحسبها منه أدوات التعذيب والتجسس. ودورات التدريب تمحو الأمية التكنولوجية وتمد الأمية الأصلية- الغريزية بدءاً من شهوة التسلط، بسلاح جديد يعزز قدراته العملية وهو يضاعف غرسه في وحل اللاأخلاقية. والاستبداد الأمني رغم كل مباهاته إلا أنه أظهر عجزاً أمنياً، ليس إلا الوجه الثاني لعجز المستبد الذي لا يمل من الحديث عن المقدرة والكفاية والتظاهر بالقوة والغرور الذي أصبح ملمحاً راسخاً في قوله وفعله.
إن غياب الانسان خلف أقنعة الزعامة والقيادة في دنيا العرب أشد المشاعر فتكا بالوعي العربي، فالفرد لا يرى صلة تجمعه بأحد «القادة»، فالفوضى البدائية في مجتمعات التخلف هي التي أوجدتهم في كل مستويات الهرم المقلوب في البلدان العربية.
عندما يصرخ الراحل السادات في خطبة نقلها التلفزيون قائلاً عن خصومه السياسيين «حفرمهم»، ونسمع رئيس الجمهورية اليمنية علي عبدالله صالح يقول في خطبة له بعد مجزرة مأرب التي أودت بحياة سياح وسائحات إسبانيا، محرضاً الناس على المشاركة في تعقب الارهابيين: بلغوا عنهم... عن أي واحد منهم «أو اقتلوه»، ندرك أن القيم التي تراقب سلوكنا لم تطرد من مجال التداول القيمي بل هي غير موجودة أصلاً. إن وجود المجتمع الدولي بكل تناقضاته ونفاقه هو الذي يحمي الناس في هذه الدول العربية، فهو على قصوره ينتج تضامناً انسانياً ووعياً انسانياً كونياً نحن جزء منه رغم دعاة القطيعة الحضارية التي يروِّج لها الاسلام السياسي.
يبدو التعذيب في مجتمعاتنا العربية وكأنه فعل رحمة لأن الأصل هو القتل. ولذا فإن الطريق الى نيل كرامتنا الإنسانية يبدأ بمناهضة كل أنواع التعذيب حتى نحول بين الدولة وحرية القتل، كما حدث في الخميس الدامي 2/8/2007في عدن.
30/8/2007
 
* الضرب في السجون العربية وفي أقسام الشرطة التحية الأولى التي يتلقاها المواطنون، والتعذيب أصبح روتينياً في مصر والمغرب وسورية واليمن. والقيود لا تزال من وسائل الحصول على دخل ثابت في السجون اليمنية، وذُكر هذا في غير نشرة من نشرات منظمة العفو الدولية، ونقرأ عنه في صحفنا بانتظام.
** هذا المبدأ كان شعار الحقوقيين الرومان، الذين كانوا يصدرون عن قيمة إنسانية دنيوية مدنية أساسها في توخي العدالة في مجتمع وثني عرف تسامحاً في مجال الدين. وكانوا يقولون براءة الف مجرم أفضل من معاقبة بريء واحد.
*** لعل غرامشي كان يفكر، كما يبدو في السياق، في أن التشدد الديني أبعد الفرد المسلم عن الله، وأن التصوف كان يهدف الى إقامة جسر بين المسلم والله، ولما كان النقل المتزمت وعقله الاجرائي يحول بين الفرد وتلك الحميمية المطلوبة اتخذ المتصوفة الذوق طريقاً الى الله، وبذلك تكون التجربة الذاتية أساس الإيمان. وملحوظاته في التاريخ والفلسفة والفن والثقافة والأدب، بما في ذلك رأيه في الروايات البوليسية، نافذة وتدل على عقل كبير، ولذا قال عنه موسوليني بغطرسة فاشية: «هذا الدماغ يجب أن يتوقف عن التفكير».

> تحية: أهلا بصباح سعيد الجريك. وحيا ومرحبا.