7/7 يوم حق تقرير المصير

7/7 يوم حق تقرير المصير - أبوبكر السقاف

1 - أكدت حرب العام 1994 دقة تعريف المفكر العسكري السياسي النمساوي كلاوزفتز وصحة تعريفه الحرب بأنها استمرار للسياسة بوسائل أخرى، فقد كانت تلك الحرب الحلقة الأخيرة من حرب مورست بوساطة الاغتيالات والقصف الاعلامي والسياسي، فجاءت لتلغي الوحدة السلمية وان لم تكن ديمقراطية، وكان من أولى مهامها التخلص من وثيقة العهد والاتفاق التي وصفت بأنها وثيقة الخيانة بعد ان وقعت عليها الأطراف كافة. ولذا أعلن وزير خارجية النظام إلغاءها قبل نهاية الحرب، وفي يومها الأخير أرسل الراحل العطار خطاباً إلى بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة تؤكد الفقرة(د)* فيها الالتزام بها. ويبدو أن الرسالة كتبت وأرسلت بناء على طلب أمريكي.
وبعد يوم 7/7/ 94 ثبت أن قلب تعريف كلاوزفتز صحيح أيضاً بدوره، فأصبحت السياسة استمراراً للحرب في كل شبر من أراضي الجنوب. وهذا يجعل التعريف دائرياً تصنعه الحرب- السياسة، والسياسة -الحرب، ولا يمكن كسر هذه الدائرة الجهنمية إلا بنوع من السياسة جديد يمتد نسبه القريب إلى الحرب العالمية الأولى العام 1914، بينما يرقى البعيد إلى الفلاسفة الرواقيين ومفكري الحق الطبيعي، ثم كانط وثورتي أمريكا وفرنسا. أقصد حق تقرير المصير للفرد والجماعة والشعب، لأن أبسط وأدق وأوضح تعريف للديمقراطية هو ذلك الذي صاغه الاشتراكي الغابي البريطاني هارولد لاسكي: حكم الناس برضاهم، وغيابه قطيعة لا يمكن معها قيام أي متحد سياسي طبيعي، ولذا تلجأ الشعوب إلى ممارسة هذا الحق لإيجاد مخرج سلمي وشرعي من وجهة نظر الدستور المحلي والقانون الدولي وقواعد الشرعية الدولية. تم استبدال السياسة المدنية بحق القوة العسكرية.
2 - بعد الحرب تلازم الحديث عن القضية الجنوبية مع شعار إصلاح مسار الوحدة، وكنت ولا أزال مقتنعاً أنه اسطورة كبيرة، فهو يعني اقناع المنتصر بأن يتنازل عن ثمار نصره، وكانت أولى بشائره إلغاء وثيقة العهد والاتفاق، الذي لم يكن الالتزام بها في رسالة العطار إلا مناورة سياسية في أروقة الأمم المتحدة يتجنب به المنتصر إحراجات أممية ممكنة، ونيل مباركة الهيئة الدولية للأمر الواقع، الذي كان الراعي الأمريكي راضياً عنه في سياق تصفية آثار الحرب الباردة. وكان نسك «الاستعمار الداخلي» في جانب منه توصيفا لأسباب هذا الاقتناع.
بدت الطبقة السياسية الحاكمة منذ 7/7/94 بتقسيم البلاد إلى مناطق عسكرية، وكثافة حضور الجيش في الجنوب سياسي وقمعي في وقت واحد، واقرار بأن الجنوب حال خاصة واستثناء كبير داخل الإطار السياسي العام الذي يجمع الجنوب والشمال. هذا التمييز يترجم في حياة كل يوم تمييزاً سياسياً وقانونياً واجرائياً، فأصبح الانتماء إلى الجنوب أو الشمال هو الذي يقرر المعاملة والحق بل والكرامة، ولا يستثنى من هذه الصورة أي مجال. بدا بجلاء أن الطبقة السياسية الحاكمة مختصرة في غرائزها، فاقفلت بذلك كل إمكان لمخاطبتها بله محاسبتها سواء أكان باسم القانون أم الدين أم العرف. أصبح الناس في الجنوب يعيشون في دوامة ظلم معمم، لا شك أنه من أحفورات القرون الغابرة، التي توجد في الطبيعة في صورة سمكة مرسومة في حجر في قمة جبل كان يوماً بحيرة.
أما الأسطورة الثانية وهي أصغر حجماً فهي شعار إصلاح النظام السياسي لأنها تدور في فلك إصلاح مسار الوحدة نفسه، فلم تظهر أية بادرة تدل على أنه بالإمكان التقدم في طريق الإصلاح بالقطعة، واتضح أنه بمرور الزمان أخذ يصبح اكثر استحالة، ذلك لأن اصلاح مسار الوحدة والاصلاح السياسي الشامل ينتحران معاً في لقاء حميم وغير سعيد عند جذر المشكلة التاريخية في النظام السياسي اليمني، وهو عدم مناسبة الثقافة السياسية الحاكمة للذهنية القبيلية لبناء دولة، وهذه حال خاصة من مشكلة عربية عامة هي سبب تعثر الأنظمة العربية على تفاوت داخل زمان تاريخي عمره نحو قرنين، ولذلك يتعذر بناء «ألفة جامعة» (الماوردي) فوجد الناس في متحد قادر على صنع الوحدة بين المختلفين، ولا نزال مستمرين في ترسيخ متحد اجتماعي قائم على الانقسام والتشظي، وعلى اعادة إنتاج الانقسام بصورة دموية كلما يسرت شروط وتحولات السياسة الدولية ذلك**. وما يحدث في العراق ولبنان ليس إلا المدى الأقصى لامكانات مجتمعاتنا التي تمتلك مخزوناً نفسياً، ووعياً سياسياً يتحكم فيه «اللاوعي السياسي»(ف.جيمسون)، أي الانتماء الأولي البسيط السابق على الوطن والشعب والطبقة, وهو الخزان العربي الكبير لهذا «اللاوعي السياسي» الذي يتحكم في الوعي السياسي المعلن.
صحيح أن البنية تخلق الأسطورة، فالحياة المشتركة للناس في بلد معين وذهاب الصغار إلى المدارس وخضوع الجميع لقوانين واحدة وتعريفهم باسم وعلم وجواز سفر، يخلق فكرة الوطن والقومية، أو ما أسماه باحث عربي أمة متخيلة أو متصورة. ولكن هذا يحدث في بنية تملك انسجاماً داخلياً، وليست منقسمة على نفسها. حيث أن كل طرف فيها يعتبر نفسه كياناً مستقلاً عن الآخر، ذلك لأن تلك الوحدة الظاهرية لا تتجاوز المظاهر وهي في حقيقتها شرط لاكتساب شرعية خارجية، لا شرعية داخلية، لأن الداخل موحد بالقوة وحدها عنواناً وممارسة وغاية، حيث يصبح الحكم ممارسة سيادة من طرف مع آخر وليس تنظيماً اجتماعياً وسياسيا واقتصادياً بله أن يكون وظيفة يقوم عليها النظام بدءاً من رئيس الجمهورية حتى شرطي المرور. ويتعذر في هذا المجتمع أن تكون الثقافة تنظيماً اجتماعياً للمعني لأن شرط ذلك وجود ثقافة واحدة، بينما المجتمع المنقسم على نفسه يمتلك ثقافات تجمع كل جزيرة من جزره وثقافات فرعية داخل كل جزيرة. هذا التذرير اللامتناهي هو الذي يوجد الدولة السلطانية طرفاها سلطان ورعية.
3 - قضى بعض المواطنين ليلة السابع من تموز 2007 في ساحة العروض (الحرية) بخور مكسر، وبعضهم جاء مع الفجر، ورغم حال الطوارئ في المنطقة وسد قوات الجيش والأمن والشرطة مداخل الساحة وشتم المواطنين واهانتهم في كل مدخل، إلا أن الناس تمكنوا من التسلل إليها وواجهتهم أطقم مسلحة باطلاق الرصاص للتخويف، ولكنها انسحبت بعد ذلك تاركة الساحة للجمهور، لأن استمرارها في الساحة كان ينذر بمذبحة.
وعلم الجمهور عند بدء الاعتصام في التاسعة أن العقيد ناصر النوبة رئيس جمعيات المتقاعدين اعتقل وأربعة من رفاقه في جولة كالتكس. لم يتحول الحشد إلى جمهور كما كتب سارتر في إحدى سلاسل «مواقف»، بل أصبح شعباً، فاللافتات جاءت من جميع أرجاء الجنوب من حضرموت حتى الضالع للتضامن مع الاعتصام الكبير المدوي الذي توج اعتصامات تناثرت باتساع خريطة البلاد منذ نحو أربعة أشهر. واختيار اليوم جاء رداً مدنياً راقياً على الحرب وويلاتها ورفضاً لبناء حق على مبدأ القوة، وتأكيداً على أن الحق يستطيع أن يكون قوة فاعلة عندما يستوطن العقول والنفوس فهو عندئد «يصبح قوة مادية» (ماركس) هذا الجمهور الغفير. الآلاف، ومن جميع الأعمار. ومن جميع «جهات الروح» جاؤوا ليرفضوا بالفعل أن حق التظاهر في عدن ليس لأبناء عدن وحدهم، كما صرح المندوب السامي وأنهم يجرمون كل عودة بهم إلى ما قبل الاستقلال ليفرض عليهم حكم الأقيال -المحافظين الجدد بعد 7/7/94، اكدوا انهم يمتلكون ارادة لم تستطع السلطة انتزاعها منهم، وهذا لو تحقق فهو الموت الحقيقي، أما اليوم فإنهم ينتصرون لكرامتهم التي تفرض الاعتراف بها فينتصب الحق/ الحقيقة قوة قادرة على التغيير وممارسة حق تقرير المصير. أصبح «التصدي للظلم» قوة. لا يمكن أن يكون هذا الجمهور من «سقط المتاع» بل كائناً عملاقاً يملك موارد غزيرة من الحكمة السياسية والشجاعة، تجعله يثق بأنه بالغ هدفه.. و«أن السلاح آخر ما يحتاجه الشجعان» كما قال الروح العظيم غاندي فاختاروا المقاومة السلمية منهجاً. إنهم مصممون على توديع «سنوات الحجر» فاستحضروا هتافاً كان شائعاً في سنوات حرب التحرير: برع يا استعمار برع. تحول حاسم من «الاستعمار الداخلي» إلى الاستعمار الخارجي*** في وعي ومخيلة الناس، ما كان يقال أحياناً في تضاعيف مقال أو همسا في مقيل أصبح صوتاً مدوياً في لندن وشيفلد وباريس وجنيف. استقبل الناس الأمل وما سيتأتى ليس إلا مناصيل. انداح الأفق شاسعاً كأنه رحاب البحر الفسيح.
إن الأمر يبدو نهاية منطقية لوحدة فورية اندماجية مسلوقة جاءت حربها بعدها لتؤكد عجز أبناء وبنات الشطرين وقصور الطبقة السياسية الحاكمة في الجنوب والشمال عن بناء وحدة تنجز تقدماً ونهضة وإخاء في بلد حر وسعيد، ولذا لا بد أن يستأنف التاريخ مسيره من لحظات الانقطاع ليكون شيئاً سوياً وإلا طالت رحلة التيه والعذاب.
عدن في 7/7/2007
 
* «... وبناء على ما سبق فإن حكومة الجمهورية اليمنية تود أن تبلغكم بأنها قررت ما يلي:
أ- إعلان عفو عام شامل. ب- استعدادها لتعويض المواطنين الذين فقدوا ممتلكاتهم نتيجة لأعمال التمرد واعتبار قانون رعاية الشهداء سارياً على جميع ضحايا التمرد. ج- تأكيد التزامها الثابت بالنهج الديمقراطي والتعددية السياسية وحرية الرأي والصحافة واحترام حقوق الإنسان. د- اعتزامها مواصلة الحوار الوطني في ظل الشرعية الدستورية والتزامها بما جاء في وثيقة العهد والاتفاق كأساس لبدء الدولة اليمنية الحديثة. ه تأكيد حرصها على التعاون الكامل مع دول المنطقة...» مقتطفات من رسالة القائم بأعمال رئيس مجلس الوزراء في الجمهورية اليمنية د.محمد سعيد العطار، إلى د. بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة، في 7/7/94.
** مقولة «القابلية للاستعمار» للمفكر الإسلامي المستنير حقاً مالك نبي ليست البتة في صالح المستعمر، بل اساسها جعل المستعمر مسؤولاً عن مصيره، لأنه يحب أن يكون قادراً على مواجهة الغازي.
*** تذكرت ما أخبرني به الراحل العزيز عمر الجاوي في العام 1995م. استقبله الرئيس محتجاً قائلاً: يعجبك إن ابن عمك يكتب عن الاستعمار الداخلي، فأجابه عمر الحمد لله وكثر خيره إنه ما كتب عن الاستعمار الخارجي. وذكر عمر أن الرئيس بدا مندهشاً وكأنه لم يدرك معنى كلمات عمر. تذكرت حكايته وأنا اسمع هدير.. برع يا استعمار برع في ساحة الحرية بخور مكسر في صباح 7/7/2007.