المنان ثانية

ما عرفت في الناس وفاء مثل وفائه، ولا حبًا مثل حبه لبيته وأهله وناسه وأصدقائه.. ولوطنه.. محمد عبدالمنان ناجي.. من أعرق بيوت الطويلة في كريتر، وأسرة تنحدر من حوطة لحج الخضيرة.. هو من أبرع وأسرع من عزف على الطابعة.. تنقلت أصابعه على الحروف وهو يطبع ديوان شعر عنوانه مثير ومهدئ من أبي مصعب إلى أم مصعب: "تقيؤات الليل وبيض الديناصور!".
في أول رحلته الوظيفية اشتغل في مكتب رئاسة الجمهورية مع قحطان، وبعضًا من فترة سالمين.. ثم انتقل برغبة من الوزير محمد سليمان ناصر، إلى وزارة الزراعة.. طوال وقته كان يقرض الشعر، ويكتب أهازيج ورباعيات في الشعر العامي.. وكان مسرحيًا من الطراز الأول، يمثل بامتياز، ويؤلف للمسرح والتلفزيون.. وآخر مسرحياته كوميديا رائعة سماها: "من الهبر إلى القبر"، عرضت مرة واحدة على خشبة المسرح الوطني، ولم يكتب لها الحظ أن تسجل للتلفزيون.. أبو نيسان، ابنته الأولى من اثنتين قبل رحيله المبكر عن دنيانا سنة 1979م، لذكراه الخلود.
أعلنوا على الملأ.. وجود البايب!
ردد مهللًا وهو يحمل لفة خرطوم مياه تبرع به من جيبه الخاص لتشجير مقر نادينا حين استلمناه، وبدأنا توظيب غرفه وأركانه وباحاته.. تعود المنان على تخزين القات من بواكير صباه حين كان يساعد أباه المقوت الفنان في بيع القات بسوق كريتر.. ومن يومها لا أذكر أني رأيته دون أن يكون في فمه قات!
حين كلفت بإدارة إعلام التعداد السكاني العام سنة 1973م، طلبت منه كتابة أغنية تكون عنوانًا لحملة إعلام التعداد.. وكتبها:
لا تنسوا التعداد العام/ ينفعنا التعداد العام، هكذا مطلعها.. وأخذني إلى أبيه في بيتهم العامر بالطويلة في ركنها، أجمل وأوسع بيوت الطويلة.. جلس أبوه يدندن على كلمات الاغنية، عازف بارع كان الأب.. لكنه قال: هكه مش يقع.. تبا لها لحن حَسين.. وسمعت نصيحته، وأخذت الكلمات إلى الفنان الكبير محمد مرشد ناجي الذي لحنها باقتدار، وطيرناها في الراديو لتصبح على كل لسان!
في صحيفة "14 أكتوبر" كلفت بتغطية حفر الآبار في طور الباحة تابع لوزارة الزراعة، ولم يكن معي في ذلك السفر أجمل من صحبة المنان.. ورحنا إلى طور الباحة، وصورنا المواقع، وحاورنا عمال الحفر، وشاركناهم وجبة الغداء الممزوجة بالتراب والذباب! لكن التجربة كانت فريدة.
عندما تزوج المنان أعطاه صهره الثري الساكن في دجيبوتي، فيللا جديدة بالمنصورة، ليسكنها.. كان أهم محتوياتها ثلاجة فخمة يحفظ فيها محمد القات، ليكفيه طوال الأسبوع، أيام منع القات في غير أيام الخميس والجمعة.. كان لديه كاتورة.. أو برتن معدني يملأه بالقات، ليخزن منه طوال الأسبوع! وبكرم زائد يعزمنا عنده هناك.. ذات يوم كنت عنده مع محمود أربد.. وكان يقرأ في الجريدة مقالًا رأى فيه تطاولًا على المسرح.. وقرر أن يرد.. وفي الجلسة كتب ردًا جميلًا بقلمه الرشيق، وضع له هذا العنوان الساخر: "المسرح فتة!". ونشر مقاله، وهدأت نفسه.
ذات يوم حزين كئيب جاءني المخرج أحمد الريدي ليبلغني بالوفاة الفاجعة المفاجئة لملك صداقاتي محمد عبدالمنان ناجي!
وتوجهنا مع الوزير محمود النجاشي إلى مسجد الشيخ عثمان في الشيخ الدولي للصلاة عليه.. كان سائق الوزارة قد غاب يومها عن توصيل الفرقة لمقر عرضها.. فتطوع المنان لسياقة الباص.. وفعلًا فعل ذلك.. وفي نهاية المشوار شعر بتعب مفاجئ نقل على إثره إلى مستشفى الجمهورية، حيث شخص الأطباء إصابته بالحمى السحائية التي تفاقمت وأودت بحياته.. في اليوم التالي جاءني من يحمل كيس أوراق للفقيد أوصى بتسليمها لي.. رحمه الله.. كانت وفاته أول أحزان حياتي الكبرى.
أعلنوا على الملأ.. وجود البايب.. كان خرطوم المياه سببًا في تشجير مقر نادينا، وزرع ما يمكن زرعه من ورود وزهور طولًا وعرضًا.. بعد سنوات.. أمسك محمود أربد بطرف الخرطوم، وهتف مرددًا: سبحان من قصرك يا بايب!
كان نادينا تعرض للسطو.. ومن بين المسروقات كان نصف البايب الذي تطوع به المنان للنادي.. وترك لنا السارق من باب الرأفة نصف طول البايب الذي قال المنان:
أعلنوا على الملأ.. وجود البايب.