أحمد عبده ناشر العريقي.. المثقف والرأسمالي الثائر المنسي في الكتابة التاريخية(١-٢)
أحمد عبده ناشر العريقي
أحمد عبده ناشر العريقي، ليس مجرد مثقف عادي مرَّ في تاريخنا، بل هو مثقف عضوي بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات ومعانٍ عميقة. إنه مثقف بالمعنى الحقيقي للكلمة، وبمفهومها الواسع والشامل، ليس فقط لكونه رجلًا متعلمًا يجيد القراءة والكتابة، أو مطلعًا على كل جديد تطاله يده واهتماماته في ذلك الحين وفي حدود الممكن، بل لكونه فاعلًا في واقعه.
يكتب المفكر غرامشي عن المثقفين ما يلي: (كل البشر مثقفون، "ولكن ليس لكل البشر وظيفة المثقفين في المجتمع"، ولهذا فإنه بينما كان من الممكن الحديث عن المثقفين، كان من المستحيل من الناحية الأخرى الحديث عن "لا مثقفين"، لأنه لا وجود لهم. فكل إنسان مهما كانت المهنة التي يعمل بها، وحتى خارج مجال مهنته يمارس نوعًا من النشاط الثقافي، أي أنه "فيلسوف")(1).
وبهذا المعنى الذي أشرنا إليه، فإن أحمد عبده ناشر هو مثقف عضوي وطني ثوري بكل المعاني؛ الضيقة منها والواسعة والعميقة على حد سواء. وإن مراسلات الشيخ عبدالله علي الحكيمي -وغيره- مع أحمد عبده ناشر العريقي، حول جملة من القضايا الوطنية، تؤكد ذلك بوضوح. ولذلك هو "المثقف التاجر"، أو التاجر والسياسي الوطني الثوري، الذي وضع وأوقف تجارته وماله، بل وحياته برمتها، في خدمة السياسة الوطنية ومسار التنوير السياسي.
في أصعب المراحل التاريخية التي شهدتها اليمن الشمالية في ظل الحكم الإمامي، كان هو الشخصية الأصلب والأشد عريكة وشجاعة في مواجهة الإمامة، وكان عونًا وسندًا للأحرار في هذا الاتجاه. ومن المعروف أو المشهور أن "الرأسمال جبان"، وأن الرأسمالي عادة ما يكون حذرًا وخائفًا ولا يتورط ويغامر بماله إلا حيث يكون الاستثمار مريحًا ومربحًا ماليًا، فكيف بنا أمام رجل يقامر بحياته قبل ماله من أجل المبادئ التي يؤمن بها؟ هذا هو الأستاذ الوالد والمناضل والمجاهد والرأسمالي الوطني والمثقف الثائر، أحمد عبده ناشر العريقي.
إننا هنا نتحدث عنه بعيدًا عن التنظيرات الأيديولوجية والسياسية النمطية التي اعتدنا عليها في قراءة علاقة الإنسان بالواقع، وعلاقة المثقف بالفكر الثوري، وعلاقة الإنسان بالوطن؛ ما يدل على أننا لسنا أمام رجل شجاع فحسب، بل أمام شخص متطرف في مغامرته دفاعًا عن قناعاته. إن انكسارات تجربة الإصلاح بعد فشل حركة 1948م لم تزده إلا إصرارًا وعزيمة على مواصلة رحلة الكفاح السياسي والوطني ضد النظام الإمامي.
"ربما يكون الشيخ والمجاهد عبدالله علي الحكيمي هو من نال البروز في وجهه الفكري والثقافي من خلال ما خطه من كتابات مثيرة ومنيرة، وبقي الثائر أحمد عبده ناشر هو الوجه المنسي في غمار التاريخ".
وقد أشار إلى ذلك محقًا الباحث عبدالعزيز سلطان المنصوب، في حديثه عن عبدالله الحكيمي وأحمد عبده ناشر، حيث كتب قائلًا: "لقد قُدر للكثير من الأحرار اليمنيين أن يكتبوا مذكراتهم أو أن يكتب الباحثون عنهم ويبينوا جهادهم، إلى درجة أنهم ينسبون فيها إلى أنفسهم -ويقصد الباحث هنا- أعمالًا ليس لهم أية صلة بها، وهو ما لاحظناه للأسف في حالات عديدة... وبقي هذان الزعيمان من دون مذكرات تخلدهما أو تذكير ينصفهما، وذهبت إنجازاتهما وأعمالهم الكثيرة والعظيمة إلى زملائهما الآخرين الذين لم نسمع منهم ما يشير إلى إعادة الحق لأصحابه، بل لربما أمنَّ بعضهم -إن لم يكن قد شارك عن سابق عزم وإصرار- من الاستحواذ على بعض أعمال هذين الزاهدين الكريمين الكبيرين وإضافتها إلى ممتلكاته الخاصة ونسبتها لشخصه"(2).
ومن خلال لقاءاتي الثلاثة بالأستاذ المناضل أحمد عبده ناشر في العامين 1975/1976م، وطريقة تحدثه وكلامه، وأسلوبه في الخطاب، ولغته المثقفة والرصينة الهادئة التي تبرز من ثنايا كلامه ومن سياق خطابه العادي البسيط، تدرك فعلًا أنك أمام مثقف وسياسي زاهد في الحديث عن نفسه. إنه أقرب للصوفي الثوري، مع أنه يقول عميق الكلام دون أن يشير إلى نفسه أو دوره أو اسمه، مع أنه يقول فصل الخطاب. ومن هنا يأتي جحودنا المركب تجاه هذا الاسم السياسي والوطني الكبير في قلب تاريخ الكفاح السياسي للأحرار، وفي قلب ثورة 26 سبتمبر 1962م، وصولًا إلى نصر السبعين يومًا؛ لأن ما جاء بعدها سار في اتجاه مضاد لما آمن وحلم به أحمد عبده ناشر، مما أدى لعزوفه النسبي عن الكلام في الشأن السياسي.
لم تكسر إرادته نكبة 1948م اليمنية وما لحقها من إعدامات وسجون، إلا أن تحويل النصر العسكري الوطني في السبعين يومًا إلى هزيمة سياسية ووطنية قد هزه من الأعماق، وخاصة بعد رؤيته لبعض رموز حركة الأحرار من التجار وغيرهم يدخلون السجون بعد أحداث 23/24 أغسطس 1968م، أمثال عبدالغني مطهر، وسلام علي ثابت الأديمي، وأحمد شمسان عون الأديمي... إلخ. والأخيران، سلام علي، وأحمد شمسان عون، من قريتي، "الفرجة" أديم، ومن كبار رموز المقاولات في أيام الاستعمار البريطاني، وفي المرحلة الجمهورية، الذين وقفوا في صف ثورة 26 سبتمبر 1962م، من لحظة انطلاقتها، وقد زرتهما مع والدي في سجن القلعة في العام 1969م، بعد اتهامهما بـ"الطائفية"، بسبب وقوفهما بجانب وفي صف قوات "الصاعقة" و"المظلات"، أي في صف الرئيس عبدالله السلال، وقد ظلت هذه الوقائع القاسية ترافق عقل ووجدان، الثائر والرأسمالي الوطني، أحمد عبده ناشر، بمرارة حتى لحظة رحيله، مع احتفاظه بذاكرة وطنية حية وإرادة صلبة تحولت إلى حالة من الصوفية الثورية، بعد أن وضع آماله في الأجيال القادمة من الساسة والمثقفين الشباب.
هذا هو أحمد عبده ناشر العريقي، الرأسمالي الوطني والمثقف والسياسي الشجاع.
حين زرته للمرة الثانية، سألني: "كيف الوالد؟ وكيف الدراسة في الجامعة؟" قائلًا ما معناه: "هذا بعض ما كنا نحلم به في العهد الإمامي، وكنا على ثقة أنه مهما طال زمن القهر والعسف وتضحيات الناس، فإن هذا اليوم سيأتي حتمًا". وهذا كان يكفيه كمعنى وقيمة؛ أن يرى انتشار المدارس والجامعة وبداية حضور مؤسسات الدولة الحديثة، وهو ما يمثل ذروة ومنتهى حلم السياسي الوطني والمثقف الثوري.
وهو الأمر الذي أشار إليه الأستاذ عبدالعزيز المنصوب على لسان الأستاذ أحمد عبده ناشر، حين سأله أحدهم: "ماذا قدمت لك الثورة والجمهورية؟ أو ماذا استفدت منها؟"، فأشار بيده إلى جماعات من الطالبات والطلاب الذاهبين إلى مدارسهم وقال ما معناه: "يكفيني هذا المشهد الجميل الذي يشير إلى العصر الجديد والحياة والمستقبل".
حقًا، لقد دخلنا التاريخ المعاصر ورأينا المستقبل، وإن كان ذلك بتكلفة باهظة، ولكن كل ذلك تم بفعل وبفضل ما قدمتموه أنتم من فداء وتضحيات على طريق الإصلاح والتغيير.
وبدون أي حذر منهجي بحثي في الكتابة، أجزم أن أحمد عبده ناشر العريقي هو من الرعيل الأول من المثقفين والسياسيين ومن التجار الأحرار، ومعه كوكبة من الفدائيين الأحرار أمثال: جازم الحروي، وعبده الدخان، وعبدالقوي الخرباش، وناشر عبدالرحمن، وسيف عبدالرحمن... إلخ. وقد عرفت الوطني والرأسمالي الكبير الوالد الشيخ سيف عبدالرحمن في الحديدة، وهو والد الصديق عبدالحفيظ سيف، أطال الله في عمره. وهناك قطعًا العديد من الأسماء المجهولة التي لم تطلها يد الكتابة والتدوين حتى اليوم.
كان التمويل الكبير والأساسي لحركة الأحرار يأتي من أبناء محافظة تعز، بما في ذلك نفقات معيشة وحياة رموز الحركة، ليس النعمان والزبيري فحسب، بل وغيرهما من الأسماء، وهو ما سمعته مباشرة من الأستاذ اللواء محمد علي الأكوع، الذي كان الأقرب للأستاذ النعمان وسكرتيره وتلميذه المباشر، وكذلك سمعته من الأستاذ محمد عبدالله الفسيل، رحمة الله تغشاهما.
قبل حركة 1948م، وحين فكر الأحرار باستقطاب الأمير سيف الحق إبراهيم إلى الحركة وهو في زيارة للحبشة، فكروا بالأستاذ أحمد عبده ناشر العريقي ليقوم بدور إقناعه بالالتحاق بالحركة. وهذا الاختيار والتكليف لم يأتِ من فراغ؛ فمع وجود أسماء كثيرة فكرية وسياسية وتجارية ووجاهات اجتماعية مشيخية وقبلية، وقع الاختيار على الأستاذ أحمد عبده ناشر ليقوم بدور التمهيد لإقناع الأمير إبراهيم بذلك. والسبب في تقديري لهذا الاختيار هو أولًا المقدرة الذهنية والفكرية والسياسية التي يمتلكها، وثانيًا لوجاهته الاجتماعية والوطنية التي صارت معروفة ومتداولة بين اليمنيين في المهجر وفي عدن وفي داخل اليمن. وكأن الأحرار رأوا فيه الند الاجتماعي والسياسي والوطني المؤهل لإقناع الأمير إبراهيم بالقيام بذلك الدور وتلك المهمة، وهي إقناع الابن بالتحول إلى معارض بالكامل لسياسة ونظام حكم والده الإمام.
قطعًا كانت مهمة صعبة وحساسة، نجح فيها المثقف والسياسي والتاجر الوطني المحنك بامتياز. وهو ما يعني أن الأستاذ أحمد عبده ناشر العريقي لم يكن مجرد تاجر وطني عادي، بل كان رجل مهمات سياسية ووطنية مستحيلة، وهذا ما جسده في كل تاريخ حياته حتى رحيله.
وتخبرنا المصادر والوثائق كيف تجشم في فترة معينة، وبمفرده، مسؤولية إنقاذ حركة الأحرار من تعثرها واضطرابها وتراجع بعض قادتها، خاصة بعد بروز خلاف حول إصرار البعض على معرفة مصادر تمويل الحركة وكم هي المبالغ الموجودة في ميزانيتها، بل ودعوة البعض من المشايخ للمطالبة باقتسام أموال الحركة بالمناصفة فيما بينهم وكأنها ملكية خاصة وليست أموالًا منذورة لنشاط وعمل حركة الأحرار. وكان الأستاذ والمجاهد أحمد عبده ناشر هو "أمين سر" ذلك الصندوق المالي السري الذي لا يعرف عنه سواه والأستاذ أحمد محمد نعمان والزبيري لاحقًا.
ومصدر السرية هنا هو الحرص الشديد على حياة الداعمين والممولين من التجار وغيرهم، خشية تسرب التفاصيل للإمام -كما هو اليوم- حيث تعرضت أسر العديد منهم وأراضيهم للنهب والمصادرة بمجرد الشبهة والتخمين أو عبر تقارير الجواسيس، بل وسُجن أعداد كبيرة من ذويهم. ويكفي هنا القول إنه بمجرد هروب النعمان والزبيري إلى عدن عام 1944م، زج الإمام بالعشرات من أسرة الأستاذ أحمد محمد نعمان في السجون.
ومن هنا حرص الأستاذ النعمان، بتوصية مباشرة من أحمد عبده ناشر وبناءً على رغبة التجار والمهاجرين، على أن تظل أسماؤهم غير معروفة.
لقد واجه التجار، أو الحركة الرأسمالية التجارية اليمنية الناشئة في شمال اليمن الإمامي، جملة من العوائق الموضوعية والذاتية؛ منها حالة فرض العزلة الداخلية، حيث كان مجرد السفر إلى مدينة حجة يحتاج إلى ثلاثة أيام كما أشار الأستاذ اللواء يحيى المتوكل، أي انعدام وجود الحد الأدنى من "السوق الاقتصادية" بالمعنى الرأسمالي. فضلًا عن خوف الإمامة من العالم الخارجي، تحت ذريعة الحفاظ على الاستقلال الوهمي، وقيام حالة من العزلة المطبقة، إلى جانب ظاهرة الجبايات المتعددة: الخطاط، التنافيذ، البقاء، الصبرة؛ وهي جبايات فرضت على الجميع وبدرجة أساسية على الطبقة التجارية، خاصة بعد دخول "سيوف الإسلام" (أبناء الإمام) مجال التجارة وخلط السياسة بالسلطة والمال. كل ذلك شكل عائقًا أمام نمو الحركة التجارية والصناعية في ظل نظام إمامي مغلق "قروسطي" طارد للحياة وللعصر، وهو ما تحدث عنه بيان علماء صنعاء للإمام يحيى بضرورة عدم تدخل أبناء الإمام في التجارة، وقد احتوى دستور حركة 1948م، على هذا المعنى بوضوح.
وهذه الظروف كانت من أهم أسباب هجرة الرأسمال الوطني إلى عدن والمهاجر العالمية.
وأحمد عبده ناشر وجازم الحروي وعبدالقوي الخرباش -وغيرهم- هم من هؤلاء الأوائل الذين هاجروا هربًا من جور الإمامة.
إلا أن أحمد عبده ناشر يبقى هو الأكثر إصرارًا وعنادًا على ربط التجارة بالنشاط السياسي، أي لخدمة حركة الأحرار، حيث وصل به الأمر لدعم فكرة شراء الأسلحة وإدخالها للبلاد. ويكتب عبدالعزيز المنصوب حول ذلك: "بدءًا من 12/7/1951م، وُجدت رسائل مشفرة تتحدث عن مشتريات أسلحة ونقلها لليمن وعمليات ضد شخص الإمام (...)، وواضح أن هناك تشكيلًا فدائيًا سريًا كان يديره أحمد عبده ناشر في تلك الآونة".
وهي قضايا بحاجة لامتلاك الوثائق المصدرية لتقديم قراءة مستقلة حول هذه الأفكار والمعلومات، وحول الهدف من نقل السلاح ومعنى تشكيل أطر أولية للعمل الفدائي.
إن هذه السردية السياسية والوطنية التي كشفتها بعض المصادر، ومازالت تلفها الكثير من الأسرار، تخص حياة الأستاذ أحمد عبده ناشر العريقي ورفاقه أمثال جازم الحروي وعبدالقوي الخرباش وعبدالرحمن سيف وعبده الدخان وعبدالقادر علوان وشمسان عون الأديمي (داعم كلية بلقيس الأساسي) وسلام علي ثابت وسعيد علي الأصبحي. جميعهم رموز للرأسمالية الوطنية التحررية وجزء أصيل من تاريخ الكفاح اليمني.
ويبقى أحمد عبده ناشر العريقي هو الأكثر اندماجًا في قلب الفعل السياسي والاجتماعي بروحية الثائر والمقاوم للاستبداد، لأن أفقه الفكري والسياسي كان وطنيًا وتقدميًا وإنسانيًا. ولذلك لم يكتفِ بالتمويل، بل كان سندًا للأحرار في سجونهم ومعيناً لأسرهم في شتى المناطق كلما أمكنه ذلك.
هذا هو المناضل والمثقف والسياسي والرأسمالي الوطني أحمد عبده ناشر العريقي.
وإلى الحلقة الثانية.
الهوامش:
1- أنطونيو بوزوليني: (غرامشي)، ترجمة سمير كرم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط(1)، 1977م، ص182.
2- عبدالعزيز سلطان المنصوب: (من أعلام قادة النضال الوطني)، ندوة جامعة عدن، 26/11/2005م.
3- عبدالعزيز سلطان المنصوب: نفس المصدر.