صنعاء 19C امطار خفيفة

الطاهر...

الطاهر...

بقدر ما هو بسيط، متواضع، طيب، ودود، ومشّاء، حتى تحسبه من أولئك الذين قال فيهم الرحمن:

﴿وعبادُ الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا﴾، وهو بإذنه تعالى من أولئك.

وبقدر ما هو قوي ورفيع القدر والشأن، جريء لا يخاف في الحق لومة لائم.
وفي الحالتين تصعب الكتابة عنه، بل تصعب في كل أحواله. فهو ليس حالة ولا حالتين، بل أحوال، وليس شخصًا واحدًا، بل شخوص تجمعت في شخص واحد، جُمع في الأخير في اسم واحد.
عبدالباري طاهر، أو الطاهر عبدالباري، وهي صفة موجزة تنطبق ولا تدل إلاّ عليه باختصار شديد.
لكن الموجز يحتاج إلى تفصيل، وهنا المشكلة أو الإشكالية، وهنا صعوبة الكتابة عنه.
يكتب عن الجميع، ولا ينتظر شكرًا من أحد، ويدافع عن جميع المظلومين في أي مكان، ولا ينتظر من يدافع عنه أو مكافأة من أحد. ربما مكافأته الوحيدة التي تسعده لو أُفرج عن معتقل سُجن ظلمًا، أو عن مظلوم رُدت إليه مظلمته، فردًا كان أو شعبًا.
إن قلتَ إنه يُشكّل مؤسسة فردية بحاله، في وقت عجزت المؤسسات الثقافية والأحزاب السياسية، وبعضها تملك الملايين، عن الدور الذي يقوم به، فلا تجافي الحقيقة. وإن قلتَ إنه مثال للمثقف فوق العضوي أيضًا لا تجافي الحقيقة. وإن قلتَ إنه الكاتب والناقد الذي يتابع كل ما هو جديد فلا تقول سوى الحقيقة. وإن قلتَ إنه المدافع عن حرية الصحافة والصحفيين والحريات والحقوق المدنية، بل من أشد المدافعين عنها، فقد نطقتَ بعين الحقيقة.
وإن اختارته منظمة «مراسلون بلا حدود» ضمن قائمتها «مائة بطل معلومات» التي تضم مدافعين عن حرية الصحافة في عموم العالم، فأمثاله يضيفون إلى القائمة ولا تضيف إليهم.
وإن قلتَ إنه داعية سلام يقف ضد الحرب العبثية التي تعصف باليمن أرضًا وإنسانًا، فتلك رسالته وموقفه الذي لا يحيد عنه، وفي سبيله تحمل ويتحمل الصعاب الجمة ويدفع الأثمان الباهظة. وإن قلتَ إنه سياسي، لكنه سياسي غير حزبي، والمرة الوحيدة التي انتمى فيها إلى الحزب الاشتراكي اليمني، بل كان من مؤسسيه ووصل فيه إلى أعلى المراتب: «عضو لجنة مركزية، ومكتب سياسي، وعضو أمانة عامة»، لكنه في الأخير قدم استقالته، ولم ينتمِ إلى أي حزب آخر، لا لسبب أيديولوجي أو سياسي، بل لأنه بات على يقين بأن المثقف الحقيقي أكبر من أي حزب، وأقل من الوطن، لا يمكن أن يُحصر في موقف حزب أو جماعة، بل فضاؤه الوطن بأكمله والكون بأجمعه، لا تحد حريته حدود.
ما زال طفل المراوعة، ذلك التهامي الطيب الذي يحمل في قلبه همّ وحزن شعب وأمة. لا أحد يستطيع إسكات صوته، وقد صار ضمير شعب وروح أمة. ما زال ذلك الرجل النقي الذي لم يتحول كما تحول البعض عن ماضيهم سعيًا وراء مال أو وظيفة، أو خوفًا من طاغية. ذلك الوطني الذي فولذته ولم تلن من عريكته السجون والمطاردات والمنافي. وذلك الشيخ الجليل الذي تتعلم منه الأجيال معنى الوطنية، ومعنى الرجولة، ومعنى التضحية، ومعنى المسؤولية؛ الذي يكون في أول الصفوف حين يدعو داعي الوطن والواجب، ويتوارى عن الصفوف حين توزيع المناصب والغنائم.
لم يقتل رفاقه كما قتلوا رفاقهم بطرق سادية وحشية، ولم يمشِ إلا في جنازات من يشبهه في البساطة والدهشة، أولئك الذين يرثون الأرض رغم عذاباتهم.
استمر طويلًا في النضال ولا يزال، ولم يتعب بعد، وقد تعب كثيرون وتركوا الساحات بمحض إرادتهم. يستقيل المرء من الوظيفة، وعن الانتماء الحزبي، لكنه لا يستقيل عن الوطن.
أيها الطفل العنيد، كم تحتاج من الجنون لتتفرد عن بقية الخلق لتدرك أن حبك لا يُطاق لهذا الوطن ولهذا الإنسان؟
نكذب كثيرًا إن قلنا نحبك، أيها الوطن المنكوب بأبنائه، مثلما يحبك الطاهر عبدالباري. هو أطهرنا في حبك، أصدقنا في الدفاع عنك، وأشجعنا في الانتصار للمقهورين والمظلومين والبؤساء والمعذبين في الأرض.
هو يشبهك أيها الوطن الجريح في كبريائك، ونبلك، وصبرك، ورعشاتك التواقة والمليئة بالحياة، وللحياة، والحرية، والكرامة.
هو يشبهك في كرهك للحروب وللقتلة من أي نوع؛ هم أكبر نكبة على الوطن وأفدح كارثة على المواطن.
ويشبهك في حبك وتوقك للسلام، ويملأ المكان بصوته وحضوره ووضوحه وموقفه الذي لا يتزحزح عنه، ليجمع حوله أنصار السلام لإطفاء جذوة ونيران الحروب.
هو يشبهك حين يسير في وضح النهار نحو فجر يراه آتيًا ببصيرة الرائين النفاذة للغد والمستقبل الذي لا يراه غيره.
كم يلزمنا من العمر والسنين، والنضال، والتضحيات، ثم لا تكسرنا الانكسارات، لندرك أننا لن نكون إلا نقطة في بحر هذا الطاهر عبدالباري؟
هو لا يحمل بندقية، بل يحمل قلمًا.
هو لا يحمل مدفعًا ولا حتى عصًا، بل يحمل فكرة، رسالة. وحملة الرسائل يواجهون المعارضة والكراهية.
هو لا يكره أحدًا إلا من يكرهون ويدمرون الوطن ويسحقون الإنسان.
هو إنسان من لحم ودم ومشاعر؛ يفرح، ويحزن، ويغضب، لكنه يعيش بالقليل ولا يغتصب حق الآخرين.
هو ليس قديسًا ولا صوفيًا، وإن كان سلوكه أشبه بالقديسين والصوفية، ولكن في عشق محبوبه الوطن.
هو يتصرف على سجيته وطبيعته كما أراد له الخالق: كن فكان عبده الطاهر.
عبدالباري كما نعرفه.
خلقه وهو يعرف أنه سيرتكب كل هذه «الحماقات» في «حب» الوطن، الذي كلما أصغى إلى نبضات قلبه يسمع صوته الحزين، فيخاف عليه ويركض إليه لعله يمنحه بعضًا منه فيشعر بالراحة.
تعبنا كلنا ولم تتعب. شخنا كلنا قبل الأوان أو في الأوان ولم تشخ. أتعبتنا المشاوير وأنت وحدك أتعبتها!
كسرتنا الانكسارات، وما أكثرها، ولم تكسرك.
عزيزي وصديقي النبيل الطاهر، أنت لا تشبه إلا نفسك، ومع ذلك تشبه ما في ضمير كل منا ولا نجرؤ على قوله أو فعله كما تقوله وتفعله.
قد لا يعجبك ما أقوله ويجرح تواضعك ويخدش حياءك المعهود ونكران الذات، لكن مثلك لا يُحابى ولا يُجامل. هي كلمتي أقولها بحق من يستحق، بحق رجل لم يتغير، ليس بالمعنى السلبي، بل ظل كما هو.
هو رجل المواقف في الزمن الصعب، رجل الفعل وقت الشدة، رجل السلام وقت الحروب وفي كل وقت. رجل الوطن وضميره الحي الذي يتحرك بكل صلابة الرجال حتى غدا روحنا التي لا يمكنهم التخلص منها. وهذه البذرة الطيبة التي زرعتها ستنبت يومًا ما، تكبر وتزهر، ويكبر أطفالنا ويفتحون عيونهم على أرض الجنتين عن يمين وشمال: أرض طيبة ورب غفور. وسيعبدون رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، ويهللون فرحين: هذا ما أورثه لنا جدنا التهامي الطيب عبدالباري طاهر.
ليس في كل يوم تضعنا الحياة أمام رجل طاهر بهي مثلك يقودنا نحو فضاءات الروح، يكون في المقدمة ولا ينسحب، رجل لا يخدعهم بالوعود ولا بمعسول الكلام، وبينه وبين الناس مصالحة كما بينه وبين نفسه. رجل هادئ نقي طاهر لا يبحث عن زعامة ولا عن كرسي. رجل يقول كلمته ويمشي بها إلى الأمام. رجل حين يفكر لا يفكر إلا في مصلحة الوطن وصالح الإنسان.
مثقف يعرف أنه لا يصلح للسلطة، لكنه يعرف تمام المعرفة أنه يُصلح الوطن، ويجعل من الكلمة موقفًا وشرفًا تؤثر في الواقع وتبقى من بعده إرثًا للأجيال.
وأختم كما يختم الصديق علي ابن الركية مقالاته: أحبك يا وطني…
أحبك أيها الطاهر…
كم من وقت نحتاج حتى نكون مثلك؟ وكم زمن نحتاج حتى نستوعب؟
هو سؤال يُطرح، وفي فمي شيء من «حتى»، وشيء منك.

الكلمات الدلالية