بين الغروب والفجر: ما الذي نحمله معنا إلى العام القادم؟
ها هو عام 2025 ينسحب بهدوء من مشهد حياتنا، كما تنسحب الشمس عند المغيب، تاركًا خلفه ما لا يُحصى من الذكريات، من التجارب، من علامات الاستفهام الكبيرة. وبينما ننظر إلى الخلف محاولين فهم ما حدث، نتأهب، في الوقت نفسه، لاستقبال عام جديد نرجو أن يكون أكثر لطفًا، وأكثر وضوحًا، أو على الأقل، أكثر عدلاً.
لكن العام لا يغيّرنا، نحن من نغيّر أنفسنا من خلاله. فالأعوام ليست مجرد تقويمات تتساقط من الحائط، بل هي مرايا، تعكس لنا من نحن، وما الذي صنعناه مما كنا نحلم به. واليوم، ونحن على مشارف صفحة جديدة، تبدو الحاجة ماسّة للتوقّف، لا لنندب ما مضى، بل لنلتقط ما يجب أن نحمله معنا في الطريق القادم.
لعل أبرز ما كشفه لنا هذا العام، هو حقيقة هشاشة التوازن في حياتنا: هشاشة الثقة، هشاشة العلاقات، هشاشة القيم حين تُختبر، هشاشة الأمل في بيئة تتسارع فيها الأزمات. لكن وسط هذا الانكشاف، برز أيضًا ما هو أعمق: القدرة على التماسك الداخلي، والنجاة الأخلاقية، والثبات على المبادئ، حتى حين تنهار من حولنا المنظومات.
إنه عام أثبت فيه اليمني من جديد قدرته على الصمود، لا صمود المتفرج، بل صمود من يعيش وسط الخسائر، ويُصرّ على أن يحتفظ بكرامته. صمود من يصنع معنى لحياته، حتى عندما يبدو أن كل شيء ضده.
ومع ذلك، لا يجب أن نُغفل أن النجاة الفردية لا تكفي. وأن مواجهة التحديات الوجودية لا تكون بالاعتماد على حلول مؤقتة، ولا بتخدير الألم عبر التمني، بل بالعمل الحقيقي على إعادة بناء العلاقة بين الإنسان ومحيطه، بين الفرد ومجتمعه، بين الفكرة والعمل، وبين الشعارات والواقع.
هذا العام جعلنا نُدرك أكثر من أي وقت مضى أن التغيير لا يُفرض، ولا يُستورد، بل يُصنع على أيدي أناس عاديين، يؤمنون بأن القيم لا يُدافع عنها بالخطابة، بل بالسلوك. أناس يفهمون أن الحلم بوطن أفضل لا يعني الهروب من الواقع، بل مواجهته بالحكمة، وبالعمل، وبالإصرار على الخير.
كم من المرات قلنا "ليس بيدنا شيء"، بينما الحقيقة أن كل شيء يبدأ من اليد التي تُمدّ لمساعدة شخص، من الكلمة التي تُقال بصدق، من القرار الأخلاقي الذي نأخذه حين لا يرانا أحد. هناك يبدأ التحوّل. لا من القمم، بل من الجذور.
وفي الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات الداعية للاستقطاب أو الاستسلام، هناك أصوات أخرى، هادئة، لكنها عميقة، تدعونا إلى أن نعود إلى أبسط الحقائق: أننا بشر، نحتاج لبعضنا البعض. أن لا أحد ينجو وحده. أن الخير لا يُورّث، بل يُبنى. وأن العدل لا يتحقق إذا لم يكن جزءًا من تفاصيل حياتنا اليومية: في السوق، في البيت، في المدرسة، في الحديث، في توزيع الفرص.
لقد كشفت لنا الأزمات أن ما نبنيه في العلن قد ينهار، إن لم تكن له جذور أخلاقية في الخفاء. وأن المجتمعات لا تنهض بالمشاريع الضخمة فقط، بل بالضمائر اليقظة، وبالاحترام المتبادل، وبالإيمان بأن كل إنسان، أياً كان، هو جزء من الحل، لا من المشكلة.
ولا يمكن أن نمر على نهاية العام دون الحديث عن الأمل. لكن لنتحدث عن الأمل لا كزينة لغوية، بل كفعل. الأمل الذي يدفعنا لأن نستيقظ رغم الخسائر. الأمل الذي يجعل المعلّم يذهب إلى صفّه رغم انعدام الموارد، والذي يجعل الأم تزرع الابتسامة في قلب طفلها رغم الألم. الأمل الذي نراه في عيون الشباب الذين يصنعون مشاريع مجتمعية من العدم، لأنهم قرروا ألا يكونوا ضحايا الظروف، بل صنّاع تحولها.
كل تلك اللحظات الصغيرة من الإصرار، من الإيمان، من التحمّل، هي ما يشكّل صورة اليمن الحقيقي، الذي لا يُختزل في صراع، ولا يُلخّص في معاناة، بل يُرى في تفاصيل الناس العاديين الذين قرروا أن يكونوا ضوءًا، مهما طال الليل.
وعليه، فإن ختام هذا العام يجب ألا يكون مجرّد حنين، ولا مجرد خيبة. بل نقطة انطلاق مختلفة، نسأل فيها أنفسنا: ما دوري في التغيير؟ ليس في السياسة ولا في الخطط الكبرى فقط، بل في حياتي اليومية؟ ما الذي أستطيع أن أقدّمه؟ ما القيمة التي يمكنني أن أجسّدها في سلوكي؟
إننا نحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى بناء ثقافة جديدة لا تُقصي أحدًا، ثقافة تنتمي للمستقبل، تحترم الإنسان، وتُؤمن بالتعدد، وتُعلي من شأن الحقيقة، لا الشعارات. وهذا لا يأتي إلا من خلال تعليمٍ إنساني، حوارٍ صادق، وانفتاحٍ فكري، ومبادرات تُبنى على الإيمان بأن ما نزرعه اليوم، سيُثمر غدًا، وإن لم نكن نحن من نحصد.
فلنحمل معنا من هذا العام كل ما علّمنا إيّاه من حكمة وألم وصبر، ولنفتح الباب لعامٍ جديد لا يكون فقط امتدادًا للتقويم، بل بدايةً لتحوّل داخلي، يُترجم في الخارج.
فالغروب، مهما طال، لا يمنع بزوغ الفجر. وما دمنا نملك القدرة على الاختيار، فإن الغد لم يُكتب بعد.