يوميات شعب يقف على حافة التعب ويواصل المشي للنجاة
ليست حياة اليمنيين اليوم مجرد معاناة اقتصادية أو حرب ممتدة؛ إنها حياة تُختبر فيها الإنسانية كل يوم، وتُعاد صياغة لمعنى الصمود على هيئة وجوه متعبة تبتسم رغم الجراح، وأحلام صغيرة تتشبث بالبقاء وسط ركامٍ من الخيبات.
في اليمن، لا يمر اليوم كما يمر في بلاد أخرى. اليوم هنا له طعم مختلف: مزيج من الصبر والوجع، من الجوع والكرامة، من الخوف والرجاء. إنه يوم يقف فيه الناس على الحافة، ومع ذلك يواصلون المشي، هنا كما يقال لا يعيشون يومهم ولكن ينجون منه.
صباح يبدأ قبل الضوء... لأن الهموم تستيقظ أولًا، يصحو اليمنيون قبل أن تشرق الشمس، ليس لأن صباحهم جميل، ولكن لأن الهموم لا تنام، يستيقظ الأب وهو يفكر: كيف سيؤمن قوت اليوم؟ ماذا سيقول لأطفاله إذا لم يستطع؟ وتستيقظ الأم وهي تعد وجبة ناقصة، لكنها تُخفي نقصها بابتسامة. ليصحو الأطفال على حياة مختنقة تم اعتيادها حتى صارت جزءًا من طفولتهم.
طرق مليئة بالندوب... مثل قلوب الناس، فهي ليست مجرد طرق معطلة أو مقطوعة؛ إنها تشبه حياة اليمنيين نفسها: مليئة بالحفر، بالتحولات المفاجئة، بالعرقلة غير المتوقعة. ومع ذلك يسير الناس فوقها كل يوم بحثًا عن فرصة، أو لقمة، أو طمأنينة.
اقتصاد منهار... وقلوب لم يظل لها إلا السماء، فلم يعد الراتب يكفي أسبوعًا، هذا إن وجد، ولم يعد السوق مكانًا للشراء، بل مكانًا لقياس العجز، حيث يقف الناس أمام الأسعار كمن يقف أمام وجع لا يمكن معالجته. تتكرر الأسئلة: كيف غدت الحياة بهذا القسوة؟ وكيف لايزال اليمنيون واقفين رغم هذا الانهيار؟
لكن رغم كل شيء، يستمر الدعاء. يستمر الأمل. وتستمر الحياة، فأكبر مظاهر الحياة في اليمن ليست الجبال ولا المدن ولا الأسواق، بل وجوه الأطفال، وجوه صغيرة تحمل ملامح أكبر من عمرها، تختصر البلاد كلها: في عيونهم بقايا خوف من أصوات الانفجارات، وفي ضحكاتهم رغبة لا تنطفئ في العيش. الأطفال هنا يتعلمون كيف يكبرون قبل وقتهم، وكيف يلعبون رغم أن الطفولة ليست متاحة بالكامل.
الناس يظهرون الصلابة وكرامة لا تُكسر، لكن يخفون معاناة ومحاولة للوقوف رغم أنوفهم، فلو لمست وجع أحدهم لانهار باكيًا، ولانعطفت قامته جالسًا ليوجه مصارحته بحقيقة وضعه، نعم يستطيع اليمني أن يتأقلم مع الظلام، مع الغلاء، مع الحرب، لكنه لا يتأقلم مع سقوط روحه.
ولذلك يواصل التمسك بما تبقى له من إنسانية، من قيم التعاون، من مساندة الجيران، من خبز يتقاسمه المحتاجون، ومن ضحكة تُطلق رغم أن القلب مثقل بالوجع، ليوجه كل مساء ممتلئ بالصمت... بأسئلة الغد، فحين يحل المساء، يخيم الصمت على البيوت، لكن داخل هذا الصمت عالم كبير من التفكير ومن البؤس.
ففي خضم الصرعات الممتدة التي يعيشها اليمن، تكاد محنة المواطن اليمني أن تكون مخفية قسرًا، فخلف عناوين الأخبار للاشتباكات وتقدم فئة على أخرى، تكمن معاناة يومية مروعة لحياة الملايين التي على الخوف تنام وعلى الجوع تنام وعلى الصمت تنام كما صورها سابقًا الشاعر أحمد مطر.
لن نستعرض المخاطر التي يتعرض لها المواطنون من الهجمات العشوائية للأطراف، ولا الوقوع بخطر الألغام ومخلفات الحرب، ولا الأمراض التي تودي بحياة الكثيرين، والتي أصبح المواطن اليمني يعتبرها فرصة نجاة للخلاص من واقع جعله يعيشه لعدم قدرته على الموت دون ذنب.
فحياة اليمنيين تحولت تدريجيًا إلى ساحة اختبار قاسية في ظل ظروف تتآكل فيها أساسيات الحياة يومًا بعد آخر، لذا لم تعد المعيشة توصيفًا دقيقًا، بل أصبحت النجاة هي المفهوم الأكثر قدرة على شرح واقع الإنسان اليمني اليوم.