صنعاء 19C امطار خفيفة

السُّلطة في اليمن.. مصنع إنتاج الأزمات المزمنة

في اليمن، لا تأتي السُّلطة بوصفها حلًّا للأزمات، بل بوصفها آليّة لإعادة إنتاجها؛ فكلُّ من يصل إلى الحكم يأتي مُحمّلاً بأزمة، ويغادر تاركًا أزمات أعمق.

إذا تأمَّلنا التاريخ السياسيّ لليمن في مراحل مختلفة من تاريخه الحديث والمعاصر، نجد نمطًا شبه ثابت؛ فالسُّلطة لا تمثّل قطيعةً مع الأزمة، بل استمرارًا لها بصيغةٍ جديدة. فالتغيير في الأشخاص أو النُّظُم لم يؤدِّ إلى تغيير في منطق الحكم نفسه. وعليه، فإن المشكلة ليست في الحاكم الفرد، بل في بِنْية السُّلطة وطبيعة تشكُّلها ووظيفتها. وكأنَّ اليمنيين يُشكِّلون استثناءً في مقولة ابن خلدون عن الدولة بوصفها دورة تاريخية (نشوء - قوّة - ترف - فساد - سقوط)، إذ لا تكتمل هذه الدورة بصورة طبيعية، بل تبقى الدولة في حالة هشاشة دائمة، بسبب غَلَبة العصبيّة (القبلية، المذهبية، المناطقية) على مفهوم الدولة، وغياب "العُمران السياسي" المستقر. وبالتالي، فإن كلَّ سلطة جديدة لا تُؤسِّس دولة، بل تُورِّث عصبيّة أزمة، فتخرج وهي أكثر إنهاكًا ممّا دخلت.
كما أنّ السُّلطة لا تحتكر العنف المشروع ضمن إقليم محدَّد، عبر مؤسّسات عقلانية وقانونية، كما عبّر عن ذلك ماكس فيبر؛ فلا يوجد احتكار فعليّ للعنف. فالكلّ يمارسه في نطاقه وحسب قوّته، والمؤسّسات تُدار بمنطق الولاء لا الكفاءة، والقانون يُستخدم كأداة سياسية لا كمرجعيّة عُليا. وبالتالي، لا تحلّ السُّلطة الأزمات، لأنها ليست دولة بالمعنى الفيبري، بل سلطة هجينة، ما قبل حديثة، تتعايش مع الفوضى بدل تنظيمها.
وفي الوقت الذي يُميّز فيه غرامشي بين السُّلطة بالقوّة والسُّلطة بالهيمنة (أي القبول المجتمعي)، نجد أنّ الحاكم في اليمن غالبًا لا يحكم عبر عقد اجتماعي، بل عبر مزيج من الغلبة والقهر، والتحالفات المؤقّتة، وتحشيد القبائل. وعندما تغيب الهيمنة الثقافية والسياسية للسُّلطة، فإنها تغدو عاجزة عن بناء مشروع وطني، ومُضطرّة إلى إدارة الأزمات بدل حلّها.
وإذا كانت السُّلطة، حسب ميكيافيلي، فنًّا للبقاء لا للإصلاح في السياقات غير المستقرّة، فإنّ السياسة تتحوّل إلى إدارة للمخاطر لا لتحقيق المصالح العامة. وهذا يفسّر كيف أنّ السُّلطة في اليمن تأتي مُحمَّلة بالأزمات، وتخرج بعد أن استهلكت ما تبقّى من موارد المجتمع والدولة.
وإذا كانت الدولة تنشأ لحماية المجتمع من "حرب الجميع ضدّ الجميع"، وفق عقدٍ اجتماعيّ جامع، إلا في اليمن لم يكتمل هذا العقد أبدًا، ولم تنجح الدولة في تحويل العنف من خاصّ إلى عامّ، لذلك تبقى السُّلطة مجرّد طرف في الصراع، لا حكمًا فوقه. ونتيجة لأن الدولة اليمنية لم تُبنَ على أساس مؤسّسي، والاقتصاد حافظ على ريعيّته الهشّة، والمجتمع محافظ على انقسامه العمودي إلى شرائح تفصل بينها مستويات مختلفة اجتماعيًّا واقتصاديًّا، إضافة إلى أزمة شرعيّة، إذ إنّ السُّلطة لا تُنتج قبولًا عامًّا، والتغيير يتمّ بالقوّة لا بالتوافق. ويرافق كل ذلك أزمة وعي سياسي، لأنّ السُّلطة تُفهَم بوصفها غنيمة، لا مجالًا للخدمة العامة أو للتخطيط طويل الأمد.

الكلمات الدلالية