صنعاء 19C امطار خفيفة

كلفة اللاحسم

كيف يتحوّل الانتظار السياسي إلى آلية لإعادة إنتاج التفكك في اليمن

في إدارة الأزمات، لا يكون اللاحسم دائمًا تعبيرًا عن العجز، بل قد يتحوّل إلى سياسة قائمة بذاتها. سياسة لا تتخذ قرارًا ولا تحسم، لكنها تترك الزمن يؤدي وظيفة القرار نيابةً عن الفاعلين. في السياق اليمني، لم يعد هذا النمط مجرّد إخفاق إداري، بل غدا آلية غير معلنة لإعادة إنتاج التفكك، حيث يتغيّر الواقع ببطء وعلى حساب المجتمع والدولة معًا.

الانتظار هنا ليس فراغًا محايدًا، بل فعلًا سياسيًا صامتًا. فحين تُترك الأزمات مفتوحة وتُدار بمنطق التأجيل، تتحوّل الوقائع المؤقتة إلى حقائق مستقرة، ويتآكل مفهوم الدولة لا عبر صدمة واحدة، بل من خلال تراكم تنازلات غير معلنة، يُعاد تقديمها في كل مرة بوصفها حلولًا اضطرارية.
في محافظات شرق اليمن، التي ظلّت رسميًا خارج خطوط المواجهة الكبرى، لا يمكن فهم ما يجري فقط من خلال التحركات العسكرية أو البيانات السياسية. ما يحدث أعمق من ذلك: اختبار طويل لقدرة المجتمع على الاحتمال، وحدود تكيّفه مع واقع لم يختره. ومع إطالة هذا الاختبار، لا يبقى الناس في موقع المراقب، بل ينتقلون تدريجيًا من التكيّف إلى البحث عن بدائل خارج إطار الدولة، في الأمن والخدمات وإدارة الشأن اليومي.
لا يظهر هذا التحول في بداياته كقطيعة صريحة مع الدولة، بل كتراجع تدريجي لدورها بوصفها مرجعية يومية. ومع ضعف الحضور المؤسسي، لم يُملأ الفراغ بقرار سياسي واضح، بل عبر ترتيبات محلية غير رسمية تولّت عمليًا وظائف الدولة. هذه البدائل لم تُطرح كمشروع مضاد، لكنها أعادت تعريف العلاقة بين الناس والسلطة على أساس الحاجة لا الشرعية.
ولا تتوقف كلفة هذا اللاحسم عند حدود السياسة أو إعادة توزيع النفوذ، بل تمتد بعمق إلى الاقتصاد والنسيج الاجتماعي. فمع غياب القرار، تتآكل سبل العيش تدريجيًا، ويُترك الاقتصاد المحلي بلا أفق، حيث تُستنزف الموارد دون إعادة إنتاج، وتتحوّل فرص العمل إلى استثناءات هشة مرتبطة بالقوة أو الولاء. في المقابل، يتفكك الرابط الوطني لصالح هويات جزئية تتغذّى من الاعتياد على الغياب، لا من مشروع جامع. ومع الزمن، لا يصبح التفكك نتيجة للصراع، بل شرطًا لاستمراره.
غير أن هذا المسار لم يتوقف عند حدود التكيّف الاجتماعي. فمع استمرار اللاحسم، تحوّل الفراغ إلى فرصة سياسية جرى استثمارها لفرض سلطة مسلّحة فوقية. وهذا التحول ليس جديدًا في الجغرافيا اليمنية؛ فقد شهدته مناطق أخرى، حيث أُعيد ملء الغياب بقوى حزبية أو مناطقية فرضت نفسها بوصفها سلطة أمر واقع.
ما يميّز شرق اليمن اليوم أن هذا المسار يتكرّر من دون الغطاء السياسي أو الاجتماعي الذي رافق مراحله السابقة، ما يجعله أكثر انكشافًا وأعلى كلفة. عند هذه النقطة، لم تُلغَ البُنى المحلية التي نشأت في ظل الغياب، بل جرى احتواؤها أو تهميشها بالقوة، في محاولة لإعادة رسم ميزان السلطة دون توافق أو تفويض.
في هذا السياق، لم يكتفِ المجلس الانتقالي الجنوبي بالاستفادة من ضعف الدولة، بل تحوّل حضوره المسلّح، في كثير من الحالات، إلى أداة لإعادة تشكيل السلطة على الأرض. الأخطر أن هذا التمدد لم يُواجَه بموقف رسمي موحّد، بل قوبل أحيانًا بتغطية سياسية صريحة أو ضمنية من داخل الحكومة نفسها، ما أضفى على الأمر الواقع طابعًا سياسيًا حتى في غياب أي إطار قانوني جامع.
وهكذا لم تعد الأزمة محصورة في صراع بين دولة غائبة وسلطات أمر واقع، بل امتدت إلى تفكك الموقف الرسمي ذاته. فالشرعية، رغم الاعتراف بها دوليًا، تفتقر إلى وحدة القرار، وتجمع قوى متناقضة في الرؤية والمصالح، ما يجعلها عاجزة عن الحسم: لا تستطيع المواجهة دون تفجير بنيتها، ولا الاحتواء دون تقويض معناها.
في المقابل، يمتلك المجلس الانتقالي قوة ميدانية، لكنه يفتقر إلى أفق سياسي مكتمل، بينما يظهر الحوثيون بوصفهم الطرف الأكثر استقرارًا تنظيميًا، لا لقوة مشروعهم أو شرعيته، بل لاستفادتهم من تشظي خصومهم، ما يمنحهم أفضلية تفاوضية ويُعيد تقديمهم خارجيًا كسلطة أمر واقع متماسكة.
أما الفاعلون الإقليميون والدوليون، فلا يسعون إلى حسم نهائي، بل إلى إدارة توازن هش يمنع الانفجار الشامل، دون التزام بإعادة بناء الدولة أو تحمّل كلفة الانهيار الكامل. والنتيجة إدارة أزمة بلا أفق، يتحوّل فيها الزمن إلى أداة سياسية رئيسية.
إذا استمر هذا المسار، فلن يقود إلى انفصال واضح ولا إلى وحدة مُستعادة، بل إلى واقع بلا اسم: دولة حاضرة في الخطاب، غائبة في الممارسة، وسلطات محلية تترسخ بفعل الاعتياد لا الشرعية. كلفة اللاحسم هنا لا تقتصر على السياسة، بل تمتد اجتماعيًا واقتصاديًا، مع كل يوم يرسّخ الغياب بوصفه أمرًا طبيعيًا.
لا توجد حلول مثالية، لكن يمكن كسر منطق الانتظار عبر خطوات محدودة وواضحة: تحييد شرق اليمن عن صراعات فرض الأمر الواقع، إعادة ضبط الشرعية بوصفها سلطة قرار لا مظلة لتعايش التناقضات، ومنع استخدام شعارات الوحدة أو الانفصال لتبرير السيطرة بالقوة.
لا تهدف هذه الإشارات إلى تقديم حلول نهائية، بل إلى كسر منطق اللاحسم قبل أن يُعاد إنتاج التشظي كقدرٍ سياسي دائم.
ففي لحظات التحلل البطيء، لا يكون أخطر ما يحدث هو ما نراه، بل ما نعتاد عليه.

الكلمات الدلالية