صنعاء 19C امطار خفيفة

كسر قواعد الاشتباك السياسي.. إخفاق القوة في اختبار التحول إلى دولة

ما يجري اليوم، من تداعيات على خلفية تحركات المجلس الانتقالي في حضرموت والمهرة، يضع الجميع أمام لحظة فارقة، لا لأنها حملت حسما عسكريا، بل لأن المسألة تجاوزت ذلك إلى كسر قواعد الاشتباك السياسي التي حكمت الصراع داخل إطار الحكومة الشرعية خلال السنوات الماضية.

الصراع لم يعد يدور على تخوم الجغرافيا، بل انتقل إلى قلب الشرعية نفسها: إلى مؤسساتها، ورمزيتها، ووحدة قرارها، ومركزها القانوني.
فرض السيطرة العسكرية على وادي وصحراء حضرموت والمهرة بدعم إماراتي كان تطورا سريعا ولافتا، لكنه لم يكن نتاج معركة مكتملة بقدر ما كان ثمرة فراغ واسع وانهيار متراكم. الفارق هنا جوهري: ما يؤخذ في لحظة انكشاف لا يتحول تلقائيا إلى مكسب مستقر، بل غالبا ما يصبح عبئا ثقيلا على من يحمله، سياسيا وأمنيا، كما أسلفنا في مقالة سابقة.
المشكلة لم تتوقف عند حدود السيطرة. الأخطر أن هذا التقدم الميداني جرى استتباعه بمحاولة فرض وقائع سياسية من داخل مؤسسات الدولة نفسها. بيانات تأييد تصدر باسم وزارات، وتصريحات لمسؤولين تنزلق خارج صلاحياتهم، واجتماعات لكيانات موازية تعقد في قصر معاشيق، كلها مؤشرات على انتقال الصراع إلى مستوى آخر: تفكيك الحكومة الشرعية من الداخل بدل مواجهتها من الخارج.
هذه الخطوات لا تعبر عن تماسك مؤسسي، بل عن تصدع عميق. فالوزير الذي يتحدث بلسان مشروع سياسي وهو لا يزال يستمد صفته من حكومة قائمة، لا يصنع واقعا جديدا، بل ينسف المعايير التي يفترض أن تحكم العمل العام. والقول إن العمل الإداري سيستمر لا يخفف من خطورة الأمر، بل يؤكد أننا أمام محاولة للفصل بين السلطة والشرعية، بين الوظيفة والدولة.
استخدام قصر معاشيق لعقد اجتماعات هيئات موازية لم يكن تفصيلا بروتوكوليا، بل رسالة سياسية مباشرة، تعني أن الاشتباك لم يعد محصورا في الأطراف، بل وصل إلى المركز. وعندما ينقل الصراع إلى قلب السلطة، فإننا نكون أمام تصعيد مفتوح، لا أمام إدارة أزمة. فحين تعجز القوة عن التحول إلى دولة، تعمل على تحويل الانقسام إلى بديل عن الشرعية.
غير أن هذا التصعيد، بدل أن يعكس ثقة مطلقة، يكشف في جوهره عن أزمة وقلق من عامل الزمن. فالمسار الذي يتقدم بسرعة ميدانيا، يتباطأ سياسيا وإقليميا. والدليل الأوضح أن السيطرة ذاتها تحولت فورا إلى موضوع تفاوض إقليمي ثلاثي، لا إلى أمر واقع نهائي. وهذا وحده كافٍ للتأكيد بأن ما جرى ليس حسما، بل مجرد جولة متقدمة في صراع مفتوح. فالتجارب السابقة تقول إن ما يفرض دون توافق حقيقي يعود لاحقا في شكل مقاومة صامتة أو انفجار مؤجل.
في المقابل، لا يبدو أن الأطراف الإقليمية المعنية مستعدة للذهاب بعيدا في كسر الإطار القائم دفعة واحدة. فالتصعيد الميداني قد يُستوعب، لكن تفكيك مؤسسات الدولة من الداخل يظل خطا بالغ الحساسية، لما يحمله من تداعيات قانونية وسياسية تتجاوز الجغرافيا الجنوبية نفسها. ولهذا برز سريعا خطاب حماية "المركز القانوني للدولة" وضبط السلوك الوظيفي، لا بوصفه إجراءً شكليا، بل كآلية احتواء لانفلات المسار.
الخلاصة أن ما نشهده اليوم ليس لحظة حسم، بل لحظة كسر قواعد. كسرت قواعد الاشتباك التي كانت تضبط الصراع، وانتقل الجميع إلى منطقة رمادية: لا حرب، ولا تسوية، ولا واقع مستقر. تقدم عسكري بلا تثبيت سياسي، وتصعيد مؤسسي بلا غطاء قانوني، ومشهد يبدو قويا من الخارج، لكنه قائم في العمق على توازن هش.
في مثل هذه اللحظات، تتحول السيطرة من ورقة قوة إلى عبء، ويصبح الاستعجال السياسي أخطر من التراجع. قد تكون هناك جولة رُبحت على الأرض، لكن المعركة الأوسع – معركة منع الارتدادات – ما تزال مفتوحة. وما لم تقرأ هذه اللحظة بعين باردة، فإن كسر قواعد الاشتباك السياسي قد يقود إلى ما هو أبعد من حسابات الجميع.

الكلمات الدلالية