الأفيون والعصا...!
لم يكن العنوان غريبًا فقط كما علق عبدالفتاح إسماعيل بعد مشاهدتنا للفيلم، بل كنا في حاجة إلى درجة كبيرة من التركيز لكي نفهم الفيلم، وبخاصة أنه يدور بالعربية الفصحى وبالفرنسية، ويحتوي أيضًا اللهجة الجزائرية، ومعنى كل كلمة ينطق بها أبطاله من الجزائريين والفرنسيين، حتى نصل إلى محتواه، ونستوعب الفكرة التي يدور حولها.
قبل قليل انتهت القمة الثانية لجبهة الصمود والتصدي في العاصمة الجزائرية (فبراير 1978م) التي حضرها الأمين العام عبدالفتاح إسماعيل ممثلًا لليمن الديمقراطية. كنت ضمن الطاقم الإعلامي المرافق، وأشغل مدير تحرير صحيفة "14 أكتوبر" اليومية.
لا وقت للمتعة. فالأجواء التي عقد فيها المؤتمر بعد زيارة السادات لإسرائيل، وتأسيس جبهة الصمود والتصدي في ديسمبر 1977، كرد فعل على تلك الزيارة، والخوف على القضية الفلسطينية ومستقبل الشعب الفلسطيني، والوطن العربي المصدوم، وحالة الانقسام الذي يشهده.. كان كله على المحك في تلك الأيام..

الوقت شتاء، ودرجة البرودة شديدة، انتهت أيام المؤتمر، وبدأت الزيارة الرسمية للأمين العام والوفد المرافق له، للتعرف أكثر على بلد المليون شهيد.
ويبدو كان عرض فيلم "الأفيون والعصا" ضمن البرنامج الذي أعده الجزائريون لضيوفهم خلال وقت الراحة التي زرنا خلالها عدة مدن جزائرية، من بينها تيزي وزو، في منطقة القبائل التي يتحدث سكانها الأمازيغية.
كل شيء يمر أمام عيني وكأنه يحدث الآن. تقع غرفتي قريبًا من جناح الأمين العام، في قصر الضيافة في بوسكورة، بقبابه المشهورة وساحاته الواسعة. ولكي يصل إلى الصالة التي يعرض فيها الفيلم، كان عليه أن يمر بممر طويل مكشوف تهب عليه رياح البحر المتوسط، وكانت درجة الحرارة دون الصفر تقريبًا.
في نفس اللحظة التي كان يعدي أمام غرفتي، فتحت أنا الباب، فإذا بي أمام عبدالفتاح إسماعيل وجهًا لوجه. ابتسم وابتسمت، كان يرتعش من البرد، ويبدو أنه لم يكن قادرًا على العودة إلى جناحه بعد أن ابتعد عنه، لإحضار معطفه، ولا مواصلة طريقه إلى صالة السينما، فخلعتُ معطفي وألبسته إياه. ومن حسن حظه أنه كان على مقاسه، فكلانا بنفس الطول والنحافة تقريبًا. وسرنا معًا إلى صالة السينما في القصر الذي ننزل فيه ضيوفًا. بمجرد وصوله أُطفئت الأنوار وبدأ عرض الفيلم: "الأفيون والعصا...".

مضى زمن بعيد على مشاهدتي الفيلم، وعلى زيارتي للجزائر التي كانت الأولى والأخيرة..
أحتاج إلى شحذ ذاكرتي التي شاخت، إذ مر على ذلك سبع وأربعون سنة، لكن الذاكرة لها قدرتها العجيبة على اختراق الزمن في لحظة تعتقد فيها أنك غير قادر على تذكر شيء.. فإذا بها تفتح أمامك كل المغاليق، وتزودك بكل التفاصيل التي كانت ضائعة منك، أو تظن ذلك!
سبع وأربعون سنة ومازال سؤال عبدالفتاح إسماعيل يرن في سمعي كأنه الآن..
لستُ أدري كيف استمتع بالفيلم، ولا بقية أعضاء الوفد، لكن فوجئنا به يسأل بعد انتهاء العرض:
- الأفيون والعصا.. عنوان غريب.. ما...؟!
لم يجب أحدنا على سؤاله، فقد كنا نحن أيضًا نحاول فك طلاسم العنوان، أو قل في حال عدم استيعاب للفيلم الذي كان حواره يدور باللغتين العربية والفرنسية واللهجة الجزائرية. فهذه المرة الأولى التي نشاهد فيها فيلمًا جزائريًا. كنا معتادين على الأفلام المصرية، واللهجة المصرية، وعلى الأفلام الهندية والإنجليزية والأمريكية المترجمة إلى العربية. كانت السينما الجزائرية جديدة علينا بمواضيعها، وإخراجها، وأبطالها، وتقنياتها.
لم نجب نحن.. ولم يلح عبدالفتاح إسماعيل في السؤال.
ربما لم أفكر في البحث عن إجابة للسؤال في حينه، لكنه ظل في مكان ما حتى الآن. احتاجَ إلى كل هذه السنين لينتظر. وهذا الأفيون والعصا اليوم يخترق كل تلك العقود من الزمن ليستفزني من جديد كما استفزنا في تلك الليلة الشتوية الباردة عبدالفتاح إسماعيل بسؤاله.
كلما تذكرت سؤاله وصوته الهادئ في تلك الصالة الصغيرة المظلمة، تحسست السؤال كأنه يبحث عن إجابة...!
لم أعد قادرًا على التجاهل أكثر مما فعلت. هأنذا أقرأ رواية "الأفيون والعصا"، التي كتبها الروائي الجزائري مولود معمري، وأخرجها للسينما المخرج أحمد راشدي.

تفندُ الرواية والفيلم الفكرة الاستعمارية القائلة: "إذا أردت أن تحكم شعبًا فاستعمل العصا، فإذا لم تنفع فاستعمل الأفيون والعصا". هكذا فعل البريطانيون في حربهم للسيطرة على الصين في ما عرف بحرب الأفيون. وهناك حرب تدور اليوم للسيطرة على اليمن بواسطة المخدرات والحرب!
هذه هي الخُلاصة أو الفكرة التي يريد مخرج الفيلم إيصالها للمشاهد. وفي التفاصيل يقدم تجربة قرية جزائرية في جميع مظاهرها أثناء المقاومة تتعاطف مع الثوار، وتحاول السلطات الاستعمارية أن تروضها، لكن عبثًا، وعندما تنسف القرية كاملة، نشهد مسيرة أهلها نحو أعالي الجبال حيث الثوار. إنها المقاومة الجزائرية كما يراها الذين عاشوها وتجاوبوا معها وتحملوها.
وسواء في "فجر المعذبين" أو "الأفيون والعصا" يتمتع راشدي بحس سينمائي مرهف، فضلًا عن أن الفيلمين يقدمان وجهة نظر وطنية لا خلاف حولها، تتعرض للماضي أكثر من تعرضها للحاضر، وعندما تنطلق الملحمة تكوّن السلوك اليومي للحياة، من تصادم الإرادات المتعارضة كما يقول.
أدركت الجزائر ما للسينما من تأثير ومن سلطة لنشر الأفكار وتعليم الأجيال عبر الصورة، فأولت للسينما أهمية خاصة للاستفادة منها في تسجيل تاريخ الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وتعميق الهوية الوطنية، مستفيدة من تطور التكنولوجيا مع مطلع القرن العشرين. وعمل المخرجون على اقتباس أروع القصص والروايات، وهو ما حدث مع رواية مولود معمري "الأفيون والعصا" التي وظفها أحمد راشدي في فيلم ثوري دارت أحداثه في ريف جزائري بأعالي منطقة القبائل، وبعد رواج هذا الفلم ونجاحه انتقلت السينما الجزائرية فعلًا إلى العالمية، وعرف العالم حقيقة معاناة الجزائريين خلال فترة الاستعمار الفرنسي الاستيطاني. وهو ما لم تهتم به الثورة اليمنية في الشمال والجنوب، حيث اقتصرت مؤسسات السينما على استيراد الأفلام وعرضها فقط، وحتى هذه الوظيفة فقدتها بعد أن أقفلت دور السينما أبوابها.
"الأفيون والعصا" عن رواية الروائي الجزائري مولود معمري.
إخراج: أحمد راشدي
تمثيل فنانين جزائريين: سيد علي كويرات، أحمد بن عيسى، محمد سيفاو، حفري كوغان، رويشد، إبراهيم حجاج، محيي الدين بشطاري، حسن الحساني. وفرنسيين: جان كويس، جان كلود، ماري جوزي نات، وهي من أب جزائري وأم فرنسية، وقد حرصت على تجسيد دور "فروجة" الذي أبدعت فيه، لالتزامها بتقديم قصص تعكس النضال والإنسانية.
موسيقى تصويرية: فليب أرثايس.
تصوير: رشيد مرابطين.
إنتاج: الديوان الوطني للتجارة والصناعة السينماتوغرافية، سنة 1969، الجزائر. تاريخ الإصدار الأولي: 1971م.
