حكمة الحياد وضغوط التورط.. قراءة في السياسة العُمانية في اليمن(1)
ينظر إلى سلطنة عُمان بوصفها استثناء هادئا في إقليم مضطرب؛ دولة اختارت منذ وقت مبكر أن ترسم لسياساتها الخارجية حدودا تعكس قناعاتها صارمة حول ما هو مناسب ومفيد لعمان وما هو ليس كذلك. وكان الحياد وعدم التدخل والابتعاد عن المواقف القصوى مع أو ضد مع الحرص على البقاء على مسافة واحدة من الجميع، بقدر ما تسمح به الوقائع هو العنوان الأبرز لهذه السياسة التي التزمت بها مسقط وعرفت بها.
غير أن هذا النهج لم يولد من الفراغ. فالتاريخ، بكل ثقله وتجربته القاسية، حاضر بقوة في الوعي السياسي العُماني، بل يكاد يكون أحد مفاتيح فهم سلوك مسقط الخارجي. لقد تركت تجربة سبعينيات القرن الماضي جرحا عميقا ومخاوفاً في الذاكرة الوطنية؛ ففي تلك السنوات بدا للعمانيين وكأن إخوتهم العرب، في الجوار وما بعد الجوار، قد اتفقوا عليهم. فبينما كانت المملكة العربية السعودية تدعم الإمامة ضد السلطان، وتنازع عمان على السيادة على منطقة الفهود النفطية، كان اليمن الديمقراطي وكل من العراق وسوريا يدعمون أو يؤيدون تمرد جبهة تحرير ظفار. وحدها إيران الشاة مدّت يد العون العسكري، وكان لذلك الدور أثر حاسم في إنهاء التمرد والحفاظ على الدولة. وحتى على المستوى السياسي، كانت طهران من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال السلطنة، في وقت تردد فيه العرب في منح عُمان مقعدها في جامعة الدول العربية.
هذه العلاقة بين التاريخ والسياسة تفسر ملامح الحذر في السياسة الخارجية السلطانية، بما في ذلك موقفها من اليمن وما يجري فيه منذ عام 2011. فالأطراف التي تشكلت حولها تلك التجربة القديمة هي، إلى حد بعيد، الأطراف نفسها المنخرطة في المشهد اليمني الراهن، ما يجعل الذاكرة التاريخية عنصرا فاعلا في الحسابات الحالية، لا مجرد خلفية بعيدة.
إلى جانب التاريخ، هناك اعتبارات الداخل التي تفرض نفسها بقوة على صانع القرار العُماني. سياسياً، كشفت أحداث عام 2011 أن الاستقرار الذي بدت عليه السلطنة لعقود ليس محصنا تماما من الهزات، وأن الشارع العُماني يمتلك تطلعات سياسية واستعدادا للتأثر والتفاعل مع ما يجري في خارج بلاده ومع أي هزات سياسية قد تحدث في المنطقة.
اقتصاديا، لا تتمتع السلطنة بوضع اقتصادي قوي مقارنة بدول الجوار الخليجية. واقتصادها يُعد الأضعف نسبيا بين اقتصادات مجلس التعاون. وفي ضوء أحداث الربيع العربي، وإدراكاً منها للعلاقة بين الوضع الاقتصادي والاضطرابات السياسية، تعهدت دول مجلس التعاون الخليجي حينها بتقديم مساعدات لمسقط تصل قيمتها إلى عشرة مليارات دولار.
وعلى الرغم من أنها لم تنتج صراعات داخلية مهمة، إلا أن التركيبة المذهبية في السلطنة (يشكل الإباضيون الغالبية العظمى من السكان، وتقدر نسبتهم ما بين 45% و60%، وإلى جانبهم أقلية سنية متوسطة الحجم وأقلية شيعية أصغر حجما)، فرضت ومازالت اعتباراتها على السياسة الخارجية العمانية بسبب حساسيتها وقابليتها للتأثر والاستثمار الخارجي. إن تجربة السبعينيات، حين استُخدمت ورقة الإمامة ضد السلطان قابوس، لا تزال حاضرة في هذا السياق، وتغذي هذه التجربة وكذلك ما تشهده المنطقة من حروب وصراعات ذات أبعاد مذهبية واضحة، كما في اليمن والبحرين، الحذر من أي توظيف خارجي للهويات الدينية.
لهذه الأسباب مجتمعة، يمكن القول إن السياسة الخارجية العُمانية صُممت، في جوهرها، كأداة لحماية الداخل: الحفاظ على الوحدة الوطنية، وتحييد البلاد قدر الإمكان عن رياح الصراعات الإقليمية.
اتسمت السياسة العُمانية تجاه اليمن، على مدى سنوات طويلة، بالبرود والحذر والتحفظ، بل وبقدر من اللامبالاة أحيانا. لم تنجح الجغرافيا وقرابة النسب في بناء علاقة متينة بين البلدين، إذ ظل التاريخ، مرة أخرى، عامل إرباك دائم، وتحدياً يلاحق العلاقة بين البلدين ويعيق تطورها. الخلافات القديمة، خاصة دعم النظام في جمهورية اليمن الديمقراطية لجبهة تحرير ظفار، ظلت تلقي بظلالها الثقيلة على هذه العلاقة.
كان يُفترض أن يفتح توقيع اتفاقية ترسيم الحدود عام 1992، صفحة جديدة أكثر ثقة وهدوءا. لكن ذلك لم يحدث. ظلت مسقط متحفظة، بل معارضة لانضمام اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي، واستمرت العلاقة في مسارها البارد. ومع اندلاع أحداث 2011، وصلت العلاقات اليمنية العُمانية إلى واحدة من أسوأ مراحلها، وشنّت بعض الصحف اليمنية حملات قاسية ضد السلطنة بسبب اتفاقيات عسكرية وقعتها مع إيران ونظر إليها اليمن كتهديد كونها تعطي لطهران فرصة لنشر قواتها وأساطيلها في البحر العربي ومنفذاً بحريا لتهريب السلاح إلى الجماعة الحوثية والحراك الجنوبي المسلح.
ورغم أن عُمان لم تنقطع عن تقديم المساعدات لليمن، وتعهدت في مؤتمر لندن للمانحين عام 2006 بنحو مئة مليون دولار، إلا أنها ظلت الأقل تعاونا خليجيا، والأقل استقبالا للعمالة اليمنية. بل يمكن القول إن السوق العُماني لم يكن مرحبا بهذه العمالة في أي مرحلة (تأتي الغالبية العظمى من العمالة الوافدة إلى عمان من الهند وباكستان وبنغلاديش وإيران وسريلانكا والفلبين ومصر والأردن. وتشكل العمالة الآسيوية نسبة 87%: الهند41%، بنغلاديش 31%، باكستان 15%). كما بقيت العلاقات الاقتصادية في حدها الأدنى، وعلى الرغم من توقيع العديد من اتفاقيات التعاون الثنائي إلا أن معظمها لم يُفعَّل.
ولدي العمانيين ومن جهة أخرى، لدى قطاعات من النخبة العُمانية صورة نمطية سالبة وراسخة عن اليمن، تُعبَّر عنها أحيانا بعبارات فجّة تثير استياء اليمنيين، وتختزل البلد في كونه مصدرا دائما للمشكلات. العبارة المنسوبة ليوسف بن علوي، الوزير السابق للشؤون الخارجية، حين قال عن اليمن: "لم نرَ إلا الخلافات"، ليست مجرد زلة لسان، بل تعبير مكثف عن رؤية أثرت، بلا شك، في مسار العلاقة بين البلدين.
وعلى الرغم من سياسة الحياد وعدم التدخل التي عرفت بها مسقط، إلا أن هناك ما يناقض هذا النهج في شرق اليمن، وتحديدا في محافظة المهرة. فقد بنت مسقط طوال عقود شبكة نفوذ واسعة وراسخة، ودرجت على منح الجنسية لكثير من المواطنين. هذه السياسة لا يمكن تفسيرها فقط بالروابط الاجتماعية والثقافية بين المهريين وسكان ظفار، فمثل هذا التداخل موجود على معظم الحدود. ومن الواضح أن الأمر يرتبط باعتبارات استراتيجية وبصراع النفوذ مع الرياض (واليوم معها ومع أبوظبي أيضاً) في تلك المنطقة. وتشير تقديرات محلية إلى أن نسبة كبيرة من المهريين الحاصلين على جنسيات غير يمنية يحملون الجنسية العُمانية أو السعودية. ورغم أن نظام صالح كان على دراية بما يجري، إلا أنه لم يثر الموضوع حينها، وهذا موقف لم يتغير إلى اليوم.