مفصولون عن الهوية والقيم
حين يتآكل المعنى في بلدٍ أنهكته الحرب
لم يعد التفسخ القيمي في اليمن ظاهرةً هامشية أو أثراً جانبياً للحرب، بل بات أحد أخطر تجلياتها وأكثرها صمتاً، فاليمنيون اليوم لا يُستنزفون في معيشتهم فقط، بل يُفصلون تدريجياً عن منظومة القيم التي شكلت هويتهم الجمعية لعقود، حتى غدا الانتماء ذاته سؤالاً معلقاً في فراغ العنف والفقر والاصطفاف.
الحرب لم تكتف بتدمير الحجر والكتل الاسمنتية، بل كسرت المعايير التي كانت تضبط العلاقة بين الناس: الصدق، الأمانة، التكافل، واحترام الحياة، ومع انهيار الدولة وتفكك مؤسساتها، تحولت القوة إلى معيار، والنجاة إلى قيمة عليا تبرر كل شيء. في هذا الفراغ، تراجعت الأخلاق العامة لصالح أخلاقيات مصلحية قاسية، تُكافئ الانتهازي وتُقصي النزيه، وتُجرم الضعف بوصفه فشلاً فردياً لا كنتيجة لبنية مدمرة.
في الشارع، لم تعد مشاهد العنف والابتزاز والتمييز صادمة كما كانت، وفي الإعلام ومقاطع الفيديو المُقتصة، تماهت الحقيقة مع الدعاية، وغابت المساءلة لصالح خطاب تعبوي يُعيد تعريف الخير والشر وفق موازين السلاح أو متطلبات الحياة. وفي الاقتصاد، تمدد السوق الأسود، لا بوصفه نشاطاً غير مشروع فحسب، بل كنظام قيم بديل يفرض منطقه: الربح بأي ثمن، والالتفاف على القانون باعتباره ذكاءً لا جريمة.
الأخطر من ذلك أن هذا التفسخ لم يبقَ في المجال العام، بل تسلل إلى داخل الأسرة والمدرسة والجامعة، فالتربية التي كانت تُنشئ على القيم تحولت إلى تربية على التكيف مع القبح. جيل كامل يتعلم مبكراً أن العدالة رفاهية، وأن الأخلاق لا تطعم خبزاً، وأن الهوية يمكن إعادة تشكيلها وفق موقعك في خارطة السيطرة، وأنه في سبيل العيش يجب أن تتخلى عن الكثير من قيمك بل تتخلى عن أشياء كانت لها رمزيتها، والأفضع أن تتخلى عن ما أحببته لأن الحياة فرضت عليك ذلك.
هكذا يُفصل اليمني عن هويته دون إعلان رسمي. لا بمرسوم، بل بتراكم يومي من الإهانات الصغيرة: حين يكافأ الفاسد، ويهمش الشريف، ويُحتفى بالولاء الأعمى بدل الكفاءة, حين يصبح الانتماء القبلي أو المناطقي أو الفصائلي بديلاً عن الانتماء الوطني، تُستبدل القيم الجامعة بهويات ضيقة، تُغذي الصراع وتمنع التعافي.
فالتفسخ القيمي نتيجة مباشرة لغياب دولة القانون، وانهيار العقد الاجتماعي، وتسيس الدين، وتسليع الإنسان. ومعالجة هذا الانهيار لا تبدأ بالشعارات، بل بإعادة الاعتبار للعدالة، وبناء مؤسسات تحمي القيم لا تتاجر بها، واستعادة التعليم والإعلام كفضاءين لإنتاج المعنى لا لتدوير الكراهية.
كنت قد كتبت في بداية الحرب وهروب الكثيرين خارج الوطن بأن طوفاننا لا يشبه طوفان نوح كونه لا الذين ركبوا السفينة نجوا ولا من بقى على البر نجى فأعود اليوم لأقول أن الأيام أصبحت كأيام نوح، اليمن اليوم يقف على مفترق طرق من حافة الجوع والإنفلات، حافة فقدان المعنى. وإذا استمر فصل الناس عن هويتهم وقيمهم، فلن تكون الحرب القادمة عسكرية، بل أخلاقية شاملة، تطيح بما تبقى من نسيج المجتمع، فالأوطان لا تسقط فقط حين تهزم جيوشها، بل حين تتفسخ قيمها.
لأن التفسخ القيمي لا يحدث في فراغ، فإن أخطر ما يميزه اليوم هو تحوله إلى حالة مُطبعة، لم يعد الانحراف استثناءً يُدان، بل سلوكاً مبرراً ومفهوماً في خطاب الناس اليومي. تُغتفر السرقة باسم الحاجة، ويسوغ القمع باسم الأمن، ويقدم الفساد والاستيلاء على موارد الدولة بوصفه ضرورة مرحلية، هكذا يعاد تشكيل الوعي الجمعي على نحوٍ خطير: لا بوصف القيم مبادئ ثابتة، بل خيارات مرنة تخضع لموازين القوة.
في هذا المناخ، تتآكل فكرة القدوة، ويختفى النموذج الأخلاقي من المجال العام، أو جرى تشويهه عمدا كقتل أخلاقي، لم يعد المعلم ولا القاضي ولا المثقف مرجعية، بل صعدت نماذج جديدة قوامها ليس العنف، والثراء المشبوه، والقدرة على الإفلات من العقاب فقط، بل التفاهة والتباهي بالقبح وقيم ونماذج متدنية اما على مستوى الشارع أو منصات التواصل الاجتماعي الرقمية، وحين تفقد المجتمعات رموزها الأخلاقية، فإنها تفقد بوصلتها، وتدخل مرحلة التيه الطويل.
أما الخطاب الديني، الذي كان تاريخياً أحد أعمدة القيم في المجتمع اليمني، فقد تعرض هو الآخر لعملية تفكيك خطيرة، جرى تسليحه، وتجزئته، وإخضاعه لإصطفافات القوى السياسية المنتفعة، فتحول من قوة جامعة إلى أداة فرز وإقصاء. ومع كل فتوى مسيسة، يتسع الشرخ بين الدين كقيمة أخلاقية، والدين كأداة سلطة، ويُدفع المجتمع خطوة أخرى نحو الانقسام القيمي العميق.
إن أخطر نتائج هذا المسار ليست آنية، بل بعيدة المدى. فالمجتمع الذي يفقد معاييره الأخلاقية يفقد قدرته على إعادة البناء، حتى لو توقفت الحرب، فالإعمار لا يبدأ بالإسمنت، بل بالثقة، ولا تُبنى الثقة في بيئة يُكافأ فيها الغش ويعاقب فيها الصدق؛ لذلك فإن أي حديث عن السلام في اليمن دون مشروع جاد لإعادة ترميم القيم، هو سلام هش، مؤجل الانفجار.
اليمنيون اليوم ليسوا فقط ضحايا حرب، بل ضحايا تفكيك بطيء لهويتهم الأخلاقية، واستعادة هذه الهوية لم تعد ترفاً فكرياً، بل مسألة بقاء، فإما أن يعاد وصل الإنسان اليمني بقيمه الجامعة، أو يترك مفصولاً عنها، تائها في أرض بلا وطن، ومجتمع بلا ضمير.
الكلمات المفتاحية: انفصال الهوية، التفسخ القيمي ، فقد المعايير ، النموذج الأخلاقي، الحرب الأخلاقية.