صنعاء 19C امطار خفيفة

رائدات في ظروف غير مواتية 17 - كنت فقط أريد أن أتعلم

تتناول المؤلفة في هذا القسم الدافع المشترك الذي جمع مرشدات الدفعة الأولى، والمتمثل في الرغبة في التعلم وتطوير الذات، وهي رغبة تشكلت ضمن سياقات أسرية واجتماعية متباينة. فقد تأثرت فرصهن التعليمية بعوامل مثل الوضع الاقتصادي ومواقف الآباء، حيث اضطرت بعضهن إلى تحدي أسرهن أو التعليم سراً، بينما حظيت أخريات بدعم عائلي، مما يعكس اختلاف النظرة المجتمعية لتعليم الفتيات آنذاك. كما توضح أن شعار «كنت فقط أريد أن أتعلم» تجاوز كونه رغبة معرفية، ليصبح تعبيراً منسجماً مع الخطاب الوطني حول التعليم والتنمية، واستراتيجية لتقديم الطموحات الفردية بشكل مقبول اجتماعياً. وفي هذا الإطار، استخدمت هؤلاء النساء تكتيكات متنوعة، كاستغلال غياب الأزواج أو الامتثال الظاهري للقيم السائدة، لخلق مساحة للمناورة مكنتهن من تجاوز القيود الاجتماعية وتوسيع حدود المقبول الثقافي لهن ولمن جئن بعدهن.


5.2  "كنت فقط أريد أن أتعلم"

5.2.1 عائلات وآباء وفرص تعليم

ولدت حواء في الحديدة لكنها تعود أصلاً إلى أسرة قبلية من منطقة المحويت الجبلية غربي صنعاء[134] أن قصتها عن دراستها وزواجها وكيفية تعامل أسرتها مع تدريبها وعملها كمرشدة يعتبر نموذجاً لمفاهيم القبائل عن الجندر والعمل. تتولى نساء القبائل (القبيليات) اللواتي يعشن في المناطق الريفية المسئولية عن جزء رئيسي من العمل الزراعي ورعاية المواشي بالإضافة إلى أعبائهن المنزلية مثل النظافة والطبخ وغسيل الملابس والعناية بالأطفال. لم تكن المرأة تحظى بأي قسط من المشاركة في أي شأن عام في الماضي (وإلى الآن إلى حد كبير) لان عفتهن كانت تعتبر مساوية لشرف القبيلة ولذلك يجب حمايتهن.

النساء من الطبقات العليا (السادة والقضاة) كانوا في بعض الأحيان يتعلمن في بيوتهن لكن القبيليات لم تكن لهن نفس الفرصة. لقد تسبب عبء العمل الضخم الملقى على عاتق المرأة الريفية إضافة إلى الافتقار إلى مدارس مخصصة للبنات ونقص وعدم وجود المعلمات في تضاؤل فرص حصول النساء على التعليم.

وللأيديولوجيا الجندرية التي لا تحبذ تعليم الفتيات اللواتي يفترض أن يتزوجن ويغادرن بيت والديهن أثر أيضاً على حرمان نساء القبائل من التعليم. وبالرغم من أن فكرة الرجل كعائل وحيد لأسرته كانت جزءاً من مفاهيم النخبة حول الجندر والعمل فان التعليم كان أيضاً وسيلة مهمة في صنع المكانة الاجتماعية للنخبة والمكانة الراقية للعائلات (Vom Bruck 1988: 398) وكانت عائلات النخبة هي أولى العائلات التي أرسلت ببناتها إلى المدارس بنهاية الحرب الأهلية في الستينات. وكما أشرنا في الفصل الثالث فقد تم الترويج لتوسيع فرص التعليم لكل اليمنيين رجالاً ونساءً كواحدة من أهم وسائل التنمية. وفقا لفون بروك (مصدر سابق) فان القيم النخبوية مثل التعليم والمعرفة اكتسبت مصداقية عامة في المجتمع اليمني وبالرغم من الزيادة الكبيرة في أعداد البنات في المدارس منذ السبعينيات فان عدداُ كبيراُ من الفتيات ما زلن يفتقرن إلى فرص التعليم[135].

انتقلت عائلة حواء إلى الحديدة في الخمسينيات حيث عمل والدها جندياً في الجيش ثم بدأ تجارته الخاصة وتمثل قصة عائلتها نموذجاً للحراك الاجتماعي إلى الأعلى وتزايد أهمية الوضع الاقتصادي عن الوضع الاجتماعي بعد الثورة عام 1962(Carapico 1996: 88).

لقد كانت نهاية الإمامة في اليمن نهاية لأسس سلطة وامتيازات الأرستقراطية ولم تعد المكانة الاجتماعية ضماناُ للنجاح الاقتصادي وسرعان ما حل محلها التعليم الجيد والشهادات الدراسية والصلات السياسية الجيدة والثروة (Carapico and Myntti 1991: 25). وأسفر عن ذلك تمكن العديد من الأفراد المنتمين للقبائل والطبقات الاجتماعية الأدنى من الحصول على أوضاع اقتصادية جيدة بينما تدهورت أوضاع اسر العديد من السادة والقضاة. لقد تمكن والد حواء من أن يصبح تاجراً ثرياً يملك البيوت والمتاجر في صنعاء وتعز والحديدة بل وتمكن حتى من إرسال أبنائه للدراسة الجامعية في الخارج كما سمح لبناته بتلقي التعليم القرآني وسمح لبعضهن بالالتحاق بالمدارس الابتدائية حتى الصف الرابع لكنه أمرهن بالبقاء في البيت بعد ذلك وبينما تزايدت أعداد نساء الطبقة العليا اللواتي وجدن فرصاً للتعليم وفي بعض الأحيان التحقن بأعمال مأجورة في المجالات الإدارية والتعليمية تقلصت فرص الحراك الاجتماعي للنساء ذوات الأصل القبلي (القبيلي) في المناطق الحضرية[136]. بالهجرة إلى المدينة فقدت نساء القبائل مهامهن الزراعية وانحصرت مسئولياتهن في العمل المنزلي والعناية بالأطفال (cf. Lackner 1996: 86)..

ومع ذلك فإن الهجرة إلى المدن كانت لها بعض الجوانب الإيجابية لنساء القبائل لان بعضهن استفدن من فرص التعليم التي تزايدت بعد الثورة. ولدت حواء في عام الثورة 1962 ويعود تطلعها للتعليم للشعارات الثورية حول أهمية التعليم، فلقد ذهبت للمدرسة القرآنية وتلقت 4 سنوات من التعليم الابتدائي سحبها بعدها والدها من المدرسة وأوضحت حواء أن تلك السنوات الأربع من التعليم الأساسي اعتبرت كافية لأنها تكفي لقراءة وفهم أمور الدين وكانت القدرة على قراءة النصوص المكتوبة خاصة النصوص الدينية تعني تحسناً في الوضع الاجتماعي لأن القدرة على قراءة وتلاوة القرآن كانت علامة على حسن الإسلام ولأن المجتمع كان ينظر إلى المرأة باعتبارها الناقلة الرئيسية للقيم الثقافية والدينية فان تعليم النساء إلى حد ما كان مقبولاً. علاوة على أن تزايد أعداد الأطفال المسجلين في المدارس ألقى على أمهاتهن أيضاً عبء مساعدتهم في واجباتهم المدرسية[137].

تمكنت حواء من الحصول على أربعة أعوام من التعليم الابتدائي، لكن كان من بين مرشدات الدفعة الأولى من لم يسمح لهن بالذهاب للمدرسة على الإطلاق. وقالت منى التي ولدت عام 1962 أيضاً أن أشقائها الذكور فقط كانوا يذهبون إلى المدرسة "لم يكن والدي راغباً في أن نذهب نحن البنات إلى المدرسة"، قبلت أخواتها بقرار والدهن لكن منى كانت تذهب إلى المدرسة سراً في الصباح حينما يكون والدها في عمله وقالت لي باعتزاز أنها تمكنت من إكمال المرحلة الابتدائية دون أن يعرف والدها ذلك. وكان والد رهام يعمل في إثيوبيا حتى عودته لليمن في أواخر الستينيات[138] واستقرت عائلتها في مدينتهم الأصلية البيضاء حيث ولدت رهام عام 1969 ثم انتقلوا بعد ستة سنوات إلى الحديدة حيث عمل والدها في أحد المصانع بينما كانت والدتها تبيع بعض الطعام الذي تصنعه بنفسها لمقابلة احتياجاتهم. لرهام أخوين اثنين وأخت واحدة أكمل شقيقها الأكبر دراسته الثانوية وعمل ميكانيكياً بينما أكمل الأصغر دراسته الجامعية أما أختها فلم تكمل إلا ثلاث سنوات من الدراسة الابتدائية فيما أكملت رهام نفسها 6 سنوات من الدراسة الابتدائية. "في عائلتنا يسمح للبنات عادة بإكمال الصف السادس الابتدائي، بعدها يبقين في البيت".

كان ضمن مرشدات الدفعة الأولى أيضا نساء لم يعترض آباءهن على تعليمهن وكان لديهن الفرصة لإكمال تعليمهن وكان اثنتان منهن هما بنات إحدى أخوات حواء الكبيرات وقد انحدرن من نفس الخلفية العائلية.

كانت حنان ومريم أصغر بعشرة سنوات من حواء وقد ولدتا في أوائل السبعينيات وتلقتا تعليمهن في الحديدة وربما يعود حصولهن على فرصة تعليم ايسر إلى ولادتهن بعد سنوات من الثورة حيث كان تعليم البنات خاصة في المراكز الحضرية قد أصبح شائعاً في نهاية السبعينيات نتيجة لحملات التشجيع الحكومي للتعليم إضافة إلى أن والدة حنان ومريم التي هي شقيقة حواء كانت نصيرة متحمسة لتعليم المرأة والتحقت بنفسها بفصول محو الأمية التابعة لجمعية المرأة اليمنية كما كان والدهن مؤيداً لتعليمهن وكان يشعر بالأسف لأنه لم يجد فرصة للالتحاق بالمدرسة. أكملت الأختان ثلاث سنوات من التعليم الأساسي في مدرسة عادية ثم قررتا مواصلة تعليمهن في فصول جمعية المرأة اليمنية لأنها كانت قريبة من بيتهن [139]. وكانت الأختان نجوى ونظيرة في الدفعة الأولى من المرشدات أيضاً وهما من أسرة عدنية هاجرت إلى الحديدة في نهاية الستينيات.

تخرج والدهن من كلية القانون وكان موظفاً كبيراً في واحدة من الوزارات في الجمهورية الاشتراكية الوليدة في جنوب اليمن بينما كانت أمهن أمية، ُأجبر والدهن على مغادرة اليمن الجنوبي فاستقر في الحديدة وفتح مكتباً للطباعة وكان من نتائج الثورة الاشتراكية في الجنوب أن أرسل ابنتيه إلى المدرسة في عدن وواصلتا تعليمهن في الحديدة وكان والد نجوى ونظيرة متحمساً لتعليمهن ومتفائلا بمستقبل أطفاله وكان يشجع نجوى لان تصبح طبيبة. وبالرغم من التشجيع المستمر الذي لقيته نجوى ونظيرة من والدهن فقد تركتا الدراسة بعد إكمال المرحلة الإعدادية بمحض إرادتهما.

عندما سألتها لماذا تركت المدرسة قالت نجوى لأنها لم تعد تحب المدرسة وقد تكررت هذه الإجابة من كل اللواتي تركن المدرسة بإرادتهن. بالنسبة لهؤلاء الشابات كان إكمال الدراسة الإعدادية كافيا ولم يكن مهتمات بإكمال تعليمهن وفيما بقي بعضهن في البيوت حصل البعض الآخر على تدريب مهني في التمريض والتوليد والخياطة وتصفيف الشعر وما أشبه ذلك وكانت نجوى مسجلة في دورة لتدريب الممرضات في معهد التدريب الصحي لكنها تحولت للتدرب كمرشدة بعد شهور قليلة.

هذه المجموعة من المرشدات توضح تعدد الآراء حول تعليم المرأة في اليمن ومن الجلي أن العوامل التي تؤثر على فرص تعليم النساء كثيرة ومنها الخلفية الأسرية خاصة الوضع الاقتصادي والاجتماعي للأسرة، تكوين الأسرة، وضع النساء في الأسرة، العمر والجيل، السياق التاريخي، والتفضيلات الشخصية. من الضروري الاهتمام بالنظر إلى استراتيجيات العائلة والأسرة تجاه تعليم وعمل النساء.

في المجتمعات الأبوية تميل بعض الأسر إلى مساندة تعليم ابنها الأكبر لإكمال تعليمه بينما يهمل تعليم البنات. وفي غالب الأحيان يكون ذلك قائما على افتراض أن البنات سيغادرن بيت الوالدين بالزواج فيما يتوقع من الابن الأكبر أن يواصل تقديم الدعم المالي لوالديه حتى بعد أن يتزوج لذلك يحتاج الأبناء إلى وظائف أفضل تتطلب تعليما أفضل (cf. Salaff 1981). تقول باربرا إبراهيم Ibrahim (1985: 260) "إن الأفراد يتبنون استراتيجيات لتحقيق مصالحهم داخل السياق الأسري كما تقوم الأسرة بدورها بتبني إستراتيجية جماعية لمواجهة المجتمع ككل". (مصدر سابق 260). ولذلك تدعو إبراهيم إلى تحليل أكثر شمولا ودقة لإستراتيجية الأسرة فيما يتعلق بتعليم البنات والتمعن فيما تسمية "استراتيجيات الأسرة المتبناة". أنا مهتمة بوجهات نظر الشابات اللواتي شاركن في التدريبية الأولى للمرشدات، ما هي فكرتهم عن التعليم والعمل؟ ما هي الآمال والطموحات والتطلعات التي عملن على تحقيقها في مستقبلهن؟ وما هي الإستراتيجيات التي تبنينها لتحقيق تلك التطلعات.

5.2.2 التعليم كوسيلة لتطوير الذات

بالرغم من أن حواء أحبت الذهاب إلى المدرسة وكانت من أفضل التلميذات في صفها فقد قبلت بقرار والدها وتركت الدراسة الابتدائية بعد أربع سنوات. لم تعد للدراسة إلا بعد أن تزوجت وأنجبت طفلين لأنها أصيبت بالملل وكانت تريد أن تستفيد من وقت فراغها. تعلمت الخياطة أولا ثم شجعتها أختها، تلك التي كانت تؤيد تعليم البنات بحماس، على الحصول على الشهادة الابتدائية بالدراسة في مدرسة جمعية المرأة اليمنية. لقد صورت حواء الأمر كأنه اقتراح من أختها لم تفكر فيه هي بنفسها، لكن تطلعها للتعلم كان يتكرر في مراحل مختلفة من قصة حياتها، وكانت المشاركات في الدورة التدريبية الأولى للمرشدات يشاركنها هذا التطلع أيضا مثل منى التي كانت تذهب إلى المدرسة سرا بعد خروج أبيها من البيت.

"فقط كنت أود أن أتعلم" عبارة كثيرا ما سمعتها في المقابلات التي أجريتها مع مرشدات الدفعة الأولى، كما أنها ُذكرت باعتبارها الدافع الأساسي للانضمام إلى تدريب المرشدات.

يمكن تفسير التشديد على أهمية التعليم بعدة طرق: أولا وكما ذكرت من قبل فقد روجت الحكومة للتعليم في اليمن كطريق للتنمية، يمكن أن يحرر اليمن من عدم المساواة والفروق الطبقية والاجتماعية، ويخلصه من الفقر والتخلف. بالرغم من أن الحكومة لم تفعل الكثير لتوسيع وتحسين تعليم البنات فإن الخطاب الثوري الذي جعل من التعليم مفتاح التنمية قد اثر إيجابيا على الكثير من النساء والبنات اليمنيات، خاصة في المناطق الحضرية، لكن النساء في المناطق الريفية أيضا ازداد اهتمامهن بالتعليم أن لم يكن لأنفسهم فلبناتهم (cf. Dorsky and Stevenson 1995: 316) في مسح أجرى عام 1978 عبر العديد من الشابات والبنات في سن التعليم عن رغبتهن وتطلعن للتعليم ولمستقبل افضل(مصدر سابق 318)، وبينما تطلعت جميعهن للزواج فقد عبرن عن أملهن في أن يكملن تعليمهن ويعملن كمدرسات أو ممرضات[140]، لكن عندما تمت زيارة نفس النساء عام 1992 تبين أنهن جميعا تزوجن في عمر مبكر وتركن الدراسة وانجبن العديد الأطفال (مصدر سابق 322) ولم تتمكن أي ومنهن من تحقيق أحلامها بالدراسة وتحسر العديد منهن على اختيارهن أو ما اختاره لهن أهلهن.

في هذا السياق أجد أن تطلعات وتجربة الدفعة الأولى من المرشدات مهمة وتستحق التأمل، هؤلاء الشابات أتين أيضا من أسر كانت تنظر سلبا إلى تعليم المرأة وعملها، ومع ذلك فقد رغبن في التعليم وتطلعن حتى إلى أن يصبحن ممرضات أو مدرسات وبعد إكمال المرحلة الابتدائية كان لديهن جميعهن خطط لمواصلة تعليمهن.

في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات أقامت الحكومة العديد من مؤسسات التدريب لتدريب الكوادر الفنية منها مراكز التدريب المهني، معاهد تدريب المعلمين، والمعاهد الصحية وعملت كل هذه المؤسسات على تدريب الحاصلين على الشهادة الابتدائية على مختلف المهن. وكانت أربع من المرشدات مسجلات في معهد تدريب المعلمين وهي المؤسسة الوحيدة التي كانت تقدم فرص التعليم المتوسط للبنات في الحديدة كما تأخرت اثنتان منهن عن التسجيل وكان عليهن أن تنتظرا سنة كاملة للتسجيل في العام القادم.

وكانت اثنتان أخريان تنتظران في بيوتهن بلا عمل بالرغم من إنهن كن راغبات في الالتحاق بمعهد التدريب الصحي. بعض الشابات كن يرغبن في الالتحاق بالتدريس فيما كانت أخريات يعتبرن معهد المعلمين هي المرحلة التالية في تعليمهن. حنان وبلقيس على سبيل المثال كانتا ترغبان في تصبحا طبيبتين وكانتا تعتبران معهد المعلمين هو طريقهما للجامعة حيث أن التدريس والعمل بالطب هما المهنتين الوحيدتين المحترمتين بالنسبة للنساء الراغبات في العمل. علاوة على أن التطلعات لامتهان التدريس والتمريض وحتى الطب ينبغي أن تفهم في سياق كان يندر فيه وجود نماذج للمرأة العاملة خارج البيت. "كان للعديد من طالبات المدارس الشابات في أواخر السبعينيات أهداف تعليمية عليا غامضة تشكلت دون توفر فكرة واقعية عما يتطلبه تحقيق مثل هذه الأحلام." (Dorsky and Stevenson 1995: 317).

لم ترغب غالبية المرشدات (سبع من تسع) في العمل والدراسة للحصول على دخل بل لتطوير ذواتهن. كل مرشدات الدفعة الأولى اتخذن المبادرة لبدء أو إكمال تعليمهن الابتدائي وحققن رغبتهن لإكمال تعليمهن بعد البقاء في المنزل لبعض في الوقت أحيانا. فقد التحقن جميعا بفصول محو الأمية التابعة لجمعية المرأة اليمنية في الحديدة باستثناء الشابتين العدنيتين ونجحن بذلك في الحصول على الشهادة الابتدائية وهذه المبادرة تؤكد تصميمهن الذي يبدو ضروريا جدا في تفسير رغبتهن للانضمام إلى برنامج تدريب المرشدات أيضا. بطريقة ما، وقبل أن يلتحقن بالتدريب فقد جرى ما يشبه الاختيار الأولي لنساء استخدمن قدرتهن على التغيير'agentive power'، كما يسميها كوماروف وكوماروفComaroff and Comaroff (1993: 28) لتحسين أوضاعهن. بينما لم تتمكن النساء الأخريات اللواتي قد تكون لديهم نفس الرغبات في التعليم فقد تمكنت هذه المجموعة من الشابات من التقاط فرصة العودة لإكمال تعليمهن وبالرغم من أن معظمهن لم يكن لديهن النية للعمل إلا أن التحاقهن ببرامج محو الأمية كان له أثر حاسم في تطور حياتهن المهنية.

يعتبر إصرار المرشدات على "كنت فقط أريد أن أتعلم" و " كنت أريد أن أطور نفسي" (كنت اشتي أطور نفسي) مثالا حيا على المفهوم (اليمني) بان التعليم مساو للتنمية. إضافة إلى ضرورة النظر إليها كاستراتيجية[141] للحصول على التعليم دون تحدي تقسيم العمل الجندري السائد. بالتشديد على أن هدفهن الوحيد هو التعليم فإنهن يقصدن توضيح انه ليس لديهن أية خطط تتجاوز الحصول على التعليم مثل الحصول على العمل وان حصولهن على التعليم كان مقبولا لأنه لا يشكل تحديا لفكرة أن يكون الرجل هو العائل الوحيد لأسرته ولا للفصل بين الجنسين وسأعود لهذه الاستراتيجية فيما بعد. ويمكن مقارنة الدفعة الأولى من المرشدات، بطريقة ما، بنساء الطبقة العليا اللواتي دخلن إلى العمل المأجور لتحقيق الذات أو لتطبيق مبادئ اجتماعية معينة. لكن في الوقت الذي كان يتم فيه تشجيع نساء الطبقة العليا على التعليم وفي بعض الأحيان للعمل، كان على الدفعة الأولي من المرشدات أن يتغلبن على العديد من العقبات قبل يجعلن من تعليمهن وعملهن أمرا مقبولا.

5.2.3  مساحة للمناورة

قصة حواء نموذج للكيفية التي تمكنت بها بعض المرشدات من تغيير الحدود الجندرية السائدة تدريجيا لتحقيق تطلعاتهن الخاصة. لم يتحدين هذه الحدود بشكل مباشر لكهن افردن حيزا لأنفسهن أو استخدمن الحيّز المتوفر للمناورة، قبلن مواصفات الدور الجندري الموجود إلى حد ما لكنهن عملن على مطها وتوسيعها كلما أمكن ذلك. كشابة صغيرة قبلت حواء بأن يخرجها أبوها من المدرسة بالرغم من أنها كانت تحب المدرسة، وتزوجت بابن خالها احمد الذي لم يكن غنيا ولا جيد التعليم لقد كان مغتربا يعمل معظم وقته في السعودية.

كان لهجرة الشباب اليمنيين آثارا سلبية على اليمنيات اللواتي كن يعشن في الريف لأن ذلك كان يعني دائما مزيدا من الأعباء على النساء (cf. Adra 1983; Myntti 1984)، لكن بالنسبة للنساء في المناطق الحضرية ربما كان ذلك أمرا إيجابيا كما حدث في قصة حواء. من المؤكد أن حواء قد انتفعت من واقعة وجود زوجها في السعودية فقد اتخذت العديد من المبادرات لتشكيل حياتها الخاصة. لقد استغلت فرصة المناورة المتاحة لتعلم الخياطة ثم التحقت بفصول محو الأمية للحصول على شهادتها الابتدائية ثم حصلت على عمل مأجور فيما بعد وحواء مقتنعة بأنها لم تكن لتكمل تعليمها لو كان احمد مقيما معها في البيت ليس لأن احمد لم يكن ليوافق بل لأن عبء العمل المنزلي ومسؤولياته عليها كان سيصبح ثقيلا جدا.

كما أوضحت سابقا فإن تأكيد حواء على "كنت أريد أن أتعلم فقط" يمكن النظر إليه كإستراتيجية فهي على الصعيد النظري أعلنت خضوعها للأيديولوجيا الجندرية السائدة التي تعتبر الرجل العائل الوحيد لأسرته بتشديدها على أنها كانت مهتمة بالتعليم فقط وليس بالحصول على عمل مأجور لكنها على الصعيد العملي استغلت فرصة التحاقها بالدورة التدريبية للمرشدات للحصول على عمل مأجور. قالت حواء في بداية هذا الفصل "يجب ألا تهملي زوجك أبدا ويجب أن تمنحيه الاهتمام والرعاية التي كان يجدها منك دائما حتى لا تعطيه فرصة للشكوى والتذمر" وهذا مثال أخر على التكتيكات المستخدمة لتغيير الحدود الجندرية تدريجيا، فطالما كانت قادرة على الإيفاء بمهامها كزوجة وأم فإن زوجها سيقبل بعملها دون شكوى. كثير من المرشدات رددن هذا القول لي لإظهار الجهد الذي بذلنه للتوفيق بين عملهن المأجور ومهامهن المنزلية.

أن حقيقة قبول أقارب المرشدات الذكور بعملهن طالما كن يؤدين واجباتهن المنزلية ذو صلة بمفهوم يمني آخر. تمكنت المرشدات من خلق مساحة للمناورة لأنفسهن بالاتكاء على مفهوم يمني يقول بان الناس يقبلون عادة ما لا يُواجهون به مباشرة حتى ولو كانوا يعرفون ما يحدث بعيدا عن أنظارهم، لقد استخدمت حواء وزميلاتها هذه الفكرة استخداما استراتيجيا وسأقدم عددا من الأمثلة لتوضيح ذلك. أولا كان زوج حواء خارج البلاد عندما بدأت حواء في استكمال تعليمها وقد استأذنته في ذلك فأذن لها هاتفيا دون أن يرى ماذا يعني ذلك عمليا. مني أيضا استخدمت هذا المفهوم بالذهاب إلى المدرسة صباحا بعد خروج والدها الذي كان يعارض ذلك من البيت، وطالما لم يكن هو يرى ما يحدث فليس هنالك مشكلة وحتى والدتها وأخواتها قبلن وتسترن على ما كانت تفعله. والمثال الثالث هو إجابة حواء على أسئلة شقيقها حول عملها فقد أنكرت أنها كانت تعمل كمرشدة لكنها واصلت عملها بمجرد أن غادر أخاها الذي لم يكن يعيش في الحديدة وطالما لم يرها تعمل فليس هنالك مشكلة بالرغم من انه ربما كان يعرف أنها تعمل.

بعض تصرفات حواء يمكن اعتبارها استراتيجيات تم تبنيها بوعي مسبق وبهدف واضح منذ البداية لكن بعض المبادرات الأخرى جاءت كجزء من عملية بطيئة ومستمرة لم تكن هي نفسها تدرك نتائجها بوضوح منذ البداية. لقد تغيرت تطلعاتها وطموحاتها أيضا بالخطوات التدريجية التي اتخذتها لتغيير حدود الأيديولوجيا الجندرية السائدة. بعد الزواج إنجاب طفلين بدأت تفكر في استغلال وقت فراغها وبعد أن تعلمت الخياطة قررت أن تذهب إلى المدرسة وبعد أن أكملت المرحلة الابتدائية قررت إكمال تعليمها بالالتحاق بمعهد تدريب المعلمين. لم يعد دافعها هو استغلال وقت فراغها؛ أصبح هدفها ألان هو العمل كمدرسة. لكنها في بحثها عن مهنة مستقبلية التزمت بتفضيلات الأيديولوجيا الجندرية السائدة التي تتبناها أسرتها حول عمل المرأة وقد أكدت أنها لم تلتحق بالدورة التدريبية للمرشدات بهدف العمل في الحقل الصحي.

لم تكن أسرتها تحترم العمل في الحقل الصحي وكانت حواء نفسها تشاركهم هذا التقدير لذلك فإن التدريس كان هو المجال الوحيد المتاح. وبالرغم من أنها لم تدخل إلى تدريب المرشدات بغرض التخرج والعمل كمرشدة فإنها بدأت تحب العمل إلى درجة أنها بدأت من جديد في خلق مساحة للمناورة وبدأت في تغيير حدود ما كان مقبولا ثقافيا. وبالرغم من أن عائلتها كانت تعارض تعليم وعمل البنات خاصة في الحقل الصحي فقد انتهت حواء مسؤولة عن واحدة من أكبر المراكز الصحية في المدينة حيث كان يعمل العديد من الرجال. تظهر قصة حواء قدرتها على تغيير شروط ما كان يعتبر محترما بالنسبة للمرأة القادمة من نفس خلفيتها وخلقت بعملها هذا طرقا جديدة للحياة لنفسها وللآخرين. ويضاف لذلك أن وظيفة المرشدة التي لم تكن نوعا معروفا من العمل في اليمن قد مكنت النساء من المناورة لتوسيع حدود ما كان مقبولا ثقافيا وهذا الموضوع سأبحثه بالتفصيل في الفصل القادم.

ℹ️

عن المؤلفة

الدكتورة مارينا دي ريخت هي باحثة وأنثروبولوجية هولندية متخصصة في قضايا النوع الاجتماعي، والعمل، والهجرة في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، مع تركيز خاص وعميق على اليمن. بدأت علاقتها باليمن في أوائل التسعينيات، حيث عملت لسنوات في مشاريع تنموية بمدينة الحديدة، وهو ما أتاح لها فهماً ميدانياً وشخصياً للسياق الاجتماعي والثقافي.لأغراض التحليل.
*

مراجع وهوامش


[132] من عادات اليمن دفع مبالغ من المال للأم التي تنجب طفلاً، لوصف مفصل لهذه الزيارات الخاصة للأمهات وأطفالهن حديثي الولادة راجع Dorsky (1986: 158-164.

[133] منذ عام 1995 تقدم المراكز الصحية في الحديدة خدماتها العلاجية بعد الظهر أيضاً بتمويل من مجموعة من رجال الأعمال في الحديدة.

[134] لوصف تفصيلي لحياة النساء في قرى محافظة المحويت راجع Destremau (1990).

[135] بين عامي 1970 و1994 تضاعف عدد الأطفال المقيدين في المدارس إحدى عشر مرة من أقل من 250 ألف عام 1970 إلى حوالي 2.75 مليون في عام 1994 (وبالنظر إلى معدل النمو السكاني المتسارع في اليمن والبالغ 2.7 % سنوياً فان هذا الرغم يشكل 55% فقط من الأطفال بين 6 إلى 15 سنة من العمر) ومع ذلك فإن زيادة عدد البنات المقيدات في المدارس قد نمى بسرعة أقل حيث تبلغ نسبة البنات المقيدات في المدارس ما بين 6 و15 سنة 37% فقط وتنخفض هذه النسبة كثيراً في المناطق الريفية فوفقاً للإحصاء السكاني لعام 1994 فان 14% للبنات في سن التعليم يذهبن إلى المدرسة (يونيسيف 1998 ، المجلد 3:3).

[136] تتشابه هذه العملية بقدر محدود مع الأوضاع التي يصفها عبد المغني Al-Mughni (2001: 62) في الكويت حيث توسعت الفروق بين نساء الطبقات العليا والدنيا في الكويت بعد الطفرة النفطية. استفادت نساء الطبقة العليا من فرص التعليم والعمل بينما فقدت نساء الطبقة الدنيا مصادر الدخل التقليدية لهن وانسحبن تدريجيا إلى بيوتهن ولم يعد رجال الطبقة الدنيا في حاجة للاعتماد على عمل زوجاتهن لأنهن وجدوا أعمالا مجزية في صناعة النفط والخدمات المرتبطة بها. (UNICEF 1998, vol. III: 3)

[137] أوضحت دراسة حول تأثير فصول محو الأمية على النساء في الحديدة أن الأسباب الرئيسية لالتحاق النساء بهذه الفصول هي: قراءة القرآن وتعلم كيفية الصلاة، قراءة الكتب والخطابات وغيرها ومساعدة أطفالهن في واجباتهم المدرسية. الدراسات القرآنية والتربية الإسلامية جزء من مناهج محو الأمية في اليمن وهي من المواد المفضلة للنساء. (De Regt et al. 1996).

[138] في الفصل الثامن سأتحدث مفصلاً عن هجرة اليمنيين إلى أفريقيا وعودتهم في الستينيات والسبعينيات.

[139] عدم وجود مدرسة قريبة من بيتهن يؤشر إلى قلة عدد المدارس في نهاية السبعينيات خاصة مدارس البنات. في عام 1977 كانت هنالك أربع مدارس ابتدائية ومدرسة ثانوية واحدة للبنات في عام 1985 ارتفع هذا العدد إلى 15 مدرسة.

[140] رغبة هؤلاء الفتيات أن يصرن ممرضات مثيرة للاهتمام على ضوء النظرة السلبية للتمريض في اليمن. يحظى العمل في التدريس بمكانة جيدة نسبيا لأنها تتطلب تعليما أعلى وتضمن الفصل بين الجنسين بينما يعتبر التمريض أدنى مكانة لأنه يلزم بالتعامل مع الجسد البشري وسوائل الجسم والاتصال بالرجال من غير ذوي القرابة كمرضى وزملاء (انظر إلى الفصل الثالث) ومع ذلك فإن التدريس والتمريض يعتبران مهنتان ملائمتان للنساء تقليديا لأنهما يعتبران امتدادا لدورها في البيت. وتشير رغبة النساء في العمل كممرضات إلى أنهن لا يتبنين الاتجاهات السلبية تجاه الأعمال المحترمة تلقائيا بل يتخذن قراراتهن وفقا لمصلحتهن الخاصة.

[141] اعرف الاستراتيجية بأنها الحساب المنطقي للسلوك الذي يتبعه الفرد لتحقيق مصالحه كما ورد في التركيAltorki (1986: 149).

الكلمات الدلالية