صنعاء 19C امطار خفيفة

سلطان بلا تاج في جمهورية معلقة

سلطان بلا تاج في جمهورية معلقة

في يمنٍ أصبحت فيه المحافظة مشروع دولة مؤقتة، والدولة مشروع حنين مؤجل، يطلّ سلطان العرادة كأحد أكثر الشخصيات اليمنية التباساً. ليس جنرالاً صاخباً، ولا ثورياً صاحب بيان، ولا رجل دولة مكتمل الأدوات، بل شيء بين كل ذلك، أو لعلّه نتاج الضرورة، حين يضيق الهامش وتغيب البدائل. رجل لا يعد بشيء، لأنه يعرف أن الوعد في هذا البلد تهمة، وأن الطموح الزائد قد يُفسَّر انقلاباً على الواقع.

مأرب التي تحوّلت من محافظة هامشية، إلى خزان طاقة وملاذ سياسي وعسكري، لم تصبح كذلك بفعل نظرية حكم، بل بفعل تراكم أزمات جعلت من البقاء إنجازاً بحد ذاته. هنا تحديداً وجد العرادة موقعه. يعرف كيف يُبقي السقف قائماً، حتى لو لم يملك رفاهية إعادة بناء البيت. هو أقرب إلى محاسبٍ قبلي يدير دفتراً مليئاً بالخسائر، ويعتبر أن عدم الإفلاس إنجاز. مأرب في عهده لم تصبح نموذجاً، بل ملفاً ناجحاً في إدارة البقاء. لا تسقط ولا تتقدم، فقط تظل واقفة كي لا تُحسب ضمن قائمة الخيبات.
العرادة شيخ قبلي دخل السياسة من باب الضرورة، فوجد نفسه يدير واحدة من أكثر المحافظات حساسية وتعقيداً. يعرف أن الكلام الزائد في مأرب قد يُفسَّر مشروعاً سياسياً، والمشاريع السياسية في زمن الحرب تُقصف قبل أن تُكتب. يفهم جيداً أن الدولة في مأرب لا تُبنى بالنصوص، بل بتوازنات دقيقة بين القبيلة والجيش والنازحين والتحالف وحزب الإصلاح وسوق النفط والغاز. مزيج ثقيل وأي اختلال فيه قد يحوّل المحافظة إلى ساحة انهيار لا نموذج صمود.
قوة العرادة ليست في الرؤية، بل في الغياب المدروس للرؤية. يشتغل بعقلية "لا تخسر ما تملك" لا بعقلية "اكسب ما لا تملك". وهذا بالضبط ما جعل مأرب تصمد أكثر مما جعلها تتقدم. صمود بلا أفق واضح، لكنه أفضل من سقوط مدوٍّ. رجل يتقن فن الظهور دون تصريح، والحضور دون موقف، والتوازن دون اتجاه. سياسة بلا أفكار واضحة، لكنها بلا كوارث كبرى أيضاً، وهذا في اليمن يُعتبر ناجحاً إدارياً من الطراز الرفيع.
العرادة لا يبدو رجل مشروع وطني شامل، بل مدير منطقة حساسة في دولة مؤجلة. لا يطرح نفسه كبديل سياسي، ولا يسعى لتصدير تجربته كنموذج. مأرب عنده ليست مختبر دولة، بل خط تماس طويل مع الانهيار. ولهذا ظلّ خطابه منخفض السقف، عملياً، أقرب إلى لغة الحسابات منه إلى لغة الأحلام. لا يتحدث عن اليمن الكبير بل عن مأرب الممكنة.
في علاقته بالتحالف يتقن العرادة دور الرجل الذي يفهم الرسالة دون أن يطلب شرحاً. ليس تابعاً كاملاً ولا صاحب قرار مستقل. يدرك أن الدعم الخارجي ضرورة لا تُناقش، يقف في المنطقة الرمادية التي تُرضي الجميع ولا تُغضب أحداً، ويعرف أن الاقتراب الزائد يحوّله إلى موظف، والابتعاد الزائد يحوّله إلى هدف. إنها سياسة السير على حبل مشدود فوق حفرة مليئة بالشعارات.
مأرب في عهده لم تتحول إلى دولة مصغّرة، بل إلى انتظار طويل. الخدمات تُدار كإسعاف أولي، والمؤسسات تعمل بعقلية الطوارئ، التنمية مؤجلة، والإصلاحات الكبرى غائبة. مأرب لا تُحكم بل تُدار كما تُدار غرفة إنعاش. المهم أن يبقى النبض، أما المستقبل فموضوع للنقاش لاحقاً.
العرادة لا يقدّم نفسه منقذاً. يكتفي بأن يُبقي النار خارج الأسوار، حتى لو ظلّ البيت بارداً من الداخل. هو يعرف أن البطولة في هذا البلد تهمة، وأن القائد الحقيقي هو من يمرّ دون أن يلفت الانتباه. لذلك يترك الآخرين يتشاجرون على الأعلام والبيانات، بينما يكتفي بحراسة الخزانات. هو ابن مرحلة لا تحتمل الرومانسيين ولا تصنع القادة الكبار، بل تحتاج إداريين يعرفون كيف يطفئون الحرائق دون أن يسألوا عن شكل المدينة بعد عشر سنوات.
سلطان العرادة أحد جنرالات الدولة المؤجلة، أولئك الذين يديرون الفراغ بدل أن يملأوه، ويحرسون الممكن بدل أن يحلموا بالمستحيل. وفي بلد طال فيه الانتظار، وصار الحلم فيه خطراً أمنياً، يبدو هذا الدور أقصى ما تسمح به المرحلة، وأعلى طموح متاح.

الكلمات الدلالية