حين يغيب القضاء.. تولد العدالة منحرفة ويولد القصاص خارج القانون
تصرخ صفحات التواصل الاجتماعي على مدى اليومين السابقين إثر جريمة مروعة هزت الأوساط الاجتماعية اليمنية بمقتل الشاب أمين باحاج خارج القضاء في شبوة، كقصاص على قتله شخصاً آخر، والتي تطورت لتكوين أحلاف قبلية والاصطفاف للثأر. لا أقف مع الضحية الذي هو بالأصل قاتل، ولا مع من أعدموه بتلك الطريقة الوحشية؛ خاصة وأن هذه الظاهرة لم تكن الأولى، فقد سبقها تنفيذ إعدام خارج القانون في مديرية جبل حبشي قبل عامين، وفي محافظة إب أيضاً؛ نتيجة لغياب العدالة.
لم يعد القضاء في اليمن ملاذاً للإنصاف، بل تحول في وعي الناس إلى عبء مؤجل للعدالة، ومسار طويل من المماطلة والفساد والتواطؤ. وحين يفقد القضاء هيبته ووظيفته، تتكاثر الجريمة، ويبحث الناس عن عدالة بديلة؛ حتى لو كانت سكيناً في شارع، أو رصاصة في ساحة، أو مشنقة بلا حكم. ليس فقط على امتداد سنوات الحرب والانقسام، بل حتى فيما سبقها، تآكلت بنية القضاء اليمني حتى بات مؤسسة شكلية في كثير من المناطق؛ فالمحاكم بلا سلطة، والأحكام بلا تنفيذ، أو يتم تفصيلها على مقاس النفوذ والمال والسلاح، ليتحول الملف القضائي إلى سلعة، ويغدو الحكم رهينة الوساطة، وتصبح العدالة ترفاً لا يقدر عليه الفقراء؛ وهو ما دفع بالكثيرين للعودة لمجال التحكيم القبلي.
هذا التهاون لم يكن مجرد خلل إداري، بل خيانة لوظيفة الدولة الأساسية، كحماية الحق العام ومنع الناس من التحول إلى قضاة وجلادين في آن واحد. كونه حين يفقد الناس الثقة، يتقدم القصاص في الفراغ الذي يخلفه القضاء؛ حيث يبرز منطق القصاص الشعبي، لا بوصفه فعلاً إجرامياً في نظر فاعليه، بل باعتباره "العدل الممكن" في ظل دولة غائبة. عائلات تنفذ الإعدام بيدها، قبائل تحكم بالموت دون محاكمة، جماعات تقتل باسم الردع أو الثأر أو حماية الشرف؛ وكل ذلك خارج سلطة القانون، وتحت غطاء أخلاقي زائف صاغه اليأس. الخطير هنا أن المجتمع المنهك من الانتظار، يبدأ في تبرير هذه الجرائم، بل والاحتفاء بها أحياناً؛ بوصفها استعادة للكرامة، لا انتهاكاً للحق في الحياة.
كنا نسمع كثيراً عن الإعدام بلا محاكمة، حينما يبت الناس في قضية قبل القضاء ويطالبون بتنفيذ حكمهم المبني غالباً على الإشاعة، لكن تجاوزنا ذلك بكثير وأصبحت الحدود تنفذ من قبل سلطة الشارع. فأخطر ما في الإعدامات خارج القانون ليس فقط سلب حياة إنسان، بل تحطيم فكرة الدولة ذاتها؛ فحين يقتل شخص دون محاكمة عادلة، فإن الرسالة لا تصل إلى المجرم وحده، بل إلى المجتمع بأكمله: لا قانون يحميك، ولا عدالة تنصفك، والقوة وحدها هي الحكم.
وهكذا يتحول اليمن إلى فضاء مفتوح للعنف، حيث تتساوى الجريمة بالعقوبة، ويختلط الجاني بالضحية كما حدث مؤخراً، ويدفن الحق تحت ذريعة "غياب القضاء". ففساد القضاء يخلف مسؤولية الدم، حيث لا يمكن فصل تصاعد جرائم القصاص والإعدام خارج القانون عن فساد وتهاون القضاء. فكل حكم لم ينفذ، وكل قضية علقت، وكل قاضٍ خضع للضغط أو الرشوة أو تهاون، يساهم – ولو بشكل غير مباشر – في شرعنة القتل خارج القانون. والدم هنا لا يسيل فقط من يد المنفذ، بل من تقاعس المؤسسة التي كان يفترض أن تضع حداً لذلك.
اليمن اليوم يقف على حافة خطيرة: إما إعادة الاعتبار للقضاء كسلطة مستقلة وعادلة بتنظيفه أولاً من الداخل، أو الانزلاق الكامل إلى شريعة الغاب؛ حيث يصبح القتل وسيلة تنظيم اجتماعي متفق عليه، لا جريمة مستنكرة كما هي حالياً. لذا، لا يمكن بناء سلام، أو استعادة دولة، في ظل قضاء فاسد ومجتمع يطبع مع الإعدام خارج القانون. فالعدالة لا تجزأ، وإن غابت في قاعات المحاكم، ستظهر مشوهة في الشارع... دامية، انتقامية، وعمياء، كما صورها البعض على بوابات المحاكم الغربية، بعد أن كانت في محاكمنا مبصرة لاختلاف القواعد الفقهية.
إلى أين يقود هذا المسار؟ إذا استمر فساد القضاء اليمني وتهاونه، وبقيت العدالة معطلة أو خاضعة لموازين القوة، فإن المستقبل لا يحمل سوى سيناريوهات أكثر قتامة، يمكن تلخيصها في أربعة مآلات خطيرة:
تطبيع القتل وتحوله إلى سلوك اجتماعي: حيث سيغدو الإعدام خارج القانون فعلاً اعتيادياً، لا يثير الصدمة ولا الاستنكار، بل يبرر أخلاقياً وقبلياً ودينياً. وبمرور الزمن، ستنشأ أجيال ترى في القصاص الفردي حقاً مشروعاً، لا جريمة؛ مما يعني انهيار الوعي القانوني بالكامل، واستبداله بثقافة العنف والانتقام.
تفكك ما تبقى من فكرة الدولة: الدولة التي لا تحتكر العدالة، ولا تملك سلطة الفصل في الدماء، تتحول إلى كيان رمزي فارغ. ومع تصاعد القصاص الشعبي، ستتآكل شرعية المؤسسات أكثر، وسيتقدّم الفاعلون المسلحون والقبليون كبديل عملي عن القضاء، لتتحول اليمن إلى فسيفساء سلطات محلية، لكل منها محكمتها وسجنها ومشنقتها.
تصاعد دوامات الثأر والعنف المتسلسل: فالإعدام خارج القانون لا يُنهي الجريمة، بل يضاعفها. فكل قتيل بلا محاكمة يخلف سلسلة ثأر جديدة، تتسع دائرتها وتتعقد؛ مما ينذر بحروب اجتماعية صامتة داخل القرى والمدن، تتجاوز الصراع السياسي إلى تفكك النسيج الاجتماعي ذاته.
انسداد أفق السلام والانتقال السياسي: فلا سلام حقيقي دون عدالة. ومع استمرار هذا المسار، ستفشل أي تسوية سياسية مستقبلية؛ لأن مجتمعاً اعتاد أخذ حقه بيده، لن يثق بدولة تعده بالإنصاف لاحقاً. العدالة المؤجلة اليوم ستتحول غداً إلى قنبلة موقوتة في وجه أي مشروع دولة.
وبين الانهيار والإنقاذ، نستطيع القول إن المستقبل ليس قدراً محتوماً، لكنه مرهون بخيار حاسم: إما إصلاح جذري للقضاء، يجتث الفساد والتبعية من أوصاله ويعيد الثقة بالقانون، أو الاستسلام لمسار دموي، تصبح فيه الحياة رخيصة، والقتل لغة يومية، والدولة مجرد ذكرى.
ففي اليمن، لم يعد السؤال: هل سينهار القضاء؟ بل: كم من الدم سيسيل قبل أن ندرك أن العدالة ليست ترفاً، بل شرطاً للبقاء؟