الحوثيون ووزير المالية الذي يتجاوز رئيس الوزراء... قضية الراتب
- "إذا جاع الشعب فكل الشعارات كذب، وكل الثورات وهم... كرامة المواطن تبدأ من قدرته على شراء قوته اليومي دون إذلال، والمسؤول الذي لا يشعر بوجع الفقراء لا يستحق موقعه".
هذا ما قاله الرئيس الشهيد، إبراهيم محمد الحمدي، الذي قُتل على يد "الدولة العميقة" داخليًا وخارجيًا. رحم الله الحمدي.
هذه المقالة لا ترتبط بالسياسة المباشرة، بل بجوهر النص الدستوري وقضية الراتب التي تحوّلت من مسألة قانونية وحقوقية إلى أزمة اجتماعية، حياتية، وإنسانية طاحنة.
الدولة: مؤسسة وراتب، وليس جماعة
التعريف الأبرز للدولة المدنية الحديثة هو أنها دولة مؤسسات ودولة راتب. لا يمكن لأي سلطة أو جماعة أن تدَّعي أنها دولة وهي تتهرب من التزامها الأهم تجاه مواطنيها: الراتب.
فالراتب هو التعبير المادي عن وجود "الجهاز الوظيفي البيروقراطي" الذي تقوم عليه الدولة.
قطع الرواتب عن موظفي الجهاز الإداري، كليًا أو جزئيًا، يعني عمليًا مصادرة حضور الدولة وانهيار معناها في الوعي والواقع، ما لم يكن مفهوم الدولة لدى البعض مقتصرًا على "دولة جماعة خاصة" وليس دولة لجميع المواطنين.
لقد سعى نظام علي عبد الله صالح سابقًا إلى بناء دولة على مقاسه ومقاس عائلته، فكان يبني دولة للرئيس، لا رئيسًا منتخبًا لإدارة الدولة وموظفًا براتب عند الشعب، مصدر السلطات.
اليوم، يبدو أن هذا المفهوم الخاطئ يتكرر لدى قيادات الجماعة الحوثية، وعلى رأسهم وزير المالية، الذي يتوهم أنه يبني دولة تناسب رؤيته الخاصة، وليس حتى رؤية "أنصار الله".
بهذا التصرف، يزرع الوزير بذور الأزمة الوطنية والقانونية والاجتماعية للجماعة، ممارسًا الإذلال والحصار على الشعب، بدءًا من الموظفين وصولًا إلى الباحثين.
الدولة، في تعريفها الأساسي، هي شعب وأرض وسلطة. وقد بدأ جزء كبير من هذا الشعب -من العامل البسيط إلى الأكاديمي إلى القطاع الخاص- بالهجرة بحثًا عن العيش. وتقوم الدولة الحديثة على عقد اجتماعي ومؤسسات ونظم وقوانين وقضاء مستقل. لكن البعض اختزل الدولة في أجهزة القمع: شرطة واستخبارات وسجون ومصادرة للحريات، ونسي أن الوظيفة الجوهرية للأمن والجيش هي حماية الحدود وصون أمن المواطن.
ويظل الراتب في رأس قائمة الحقوق التي تلتزم بها أي دولة تجاه مواطنيها.
التجربة المريرة: صوت العنف والقمع هو الأعلى
بعد انقطاع الرواتب من سلطة صنعاء، كرَّستُ عامين لكتابة سلسلة مقالات بعنوان "صباح الراتب"، أصبحت اليوم بحجم كتاب، ناقشت فيها القضية من كل جوانبها. توصلت إلى حقيقة مؤلمة: أن صوت العنف والقمع والتجاهل الرسمي كان هو الأعلى، وهو المسيطر على قرار منع صرف الرواتب، رغم تهافت المبررات.
في المقابل، تُصرف رواتب ضخمة وحوافز وبدلات لجهات سياسية لا علاقة لها بالإيراد العام، مثل مجلس النواب والشورى والمجلس السياسي الأعلى ومجلس الوزراء. هذا السلوك يكشف عقلًا لا يتعامل مع موظفي الدولة بمنطق الدولة نفسها. تلك الجهات تحصل على رواتبها لأنها تمثل البناء الفوقي للسلطة ولا بد منها لتشريع وتمرير القوانين. أما مئات الآلاف من المعلمين ومراكز الدراسات والبحوث، فهي تُعتبر مؤسسات بلا قيمة سياسية في عقل وزير المالية، وبالتالي هي خارج حساب الراتب.
لقد وصل الأمر إلى دمج المراكز البحثية بوزارة التربية والتعليم بدلًا من الجامعات أو التعليم العالي، في سابقة خطيرة هي عداء صريح للتعليم والبحث العلمي.
معركة الحقوق تتكرر: من "إمبراطور" صالح، في صورة علوي السلامي إلى وزير المالية في حكومة صنعاء اليوم
قبل عقدين، خضنا في مركز الدراسات والبحوث معركة حقوقية وقضائية وإعلامية طويلة ضد وزير مالية نظام صالح، علوي السلامي، المعروف بـ"الإمبراطور"، الذي كان مجرد أمين صندوق للرئيس صالح. على أن علوي السلامي رغم استبداده، كان السلامي يحترم توجيهات رئيس الوزراء المسؤول المباشر عنه.
استمرت معركتنا ثماني سنوات للمساواة بجامعة صنعاء في الحقوق المالية. عندما صدر حكم قضائي نهائي لصالحنا، رفض السلامي تنفيذه، بل وتخوَّف محافظ البنك المركزي حينها، أحمد عبد الرحمن السماوي، من تنفيذه. لم يُنفَّذ الحكم إلا في عهد الوزير المحترم، نعمان الصهيبي، الذي أنصفنا بعد إقناعه الجهات العليا بضرورة تنفيذ حكم القضاء، أفضل من أن تتحول المسألة إلى قضية سياسية وإعلامية لا تتوقف ضد النظام.
اليوم، نُعيد التجربة ذاتها مع سلطة أخرى وعقلية أكثر خطورة. مشكلة المستبد أنه لا يقرأ مكر التاريخ، ولا يتعظ بآيات القرآن الكريم: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...﴾ (آل عمران: 140).
لأن البعض يتصور أن التاريخ سيتوقف عنده، وكأنه وسلطته نهاية التاريخ.
القاضي الجليل الذي أصدر الحكم الشجاع ضد نظام صالح، محمد أحمد حمران، عوقب بالنقل والتهميش، ثم اختُطف وقُتل. لقد رحل علي صالح، وعلوي السلامي إلى مزبلة التاريخ، بينما بقي اسم الوزير نعمان الصهيبي والقاضي محمد حمران والمحامي د. ناجي العميسي عاليًا كرمز للنزاهة.
كان نظام صالح يرى في مراكز البحوث، وخاصة مركز الدراسات والبحوث، تجمعًا لمعارضيه، فأصدر توجيهاته لعرقلة قضيتنا، لكننا نجحنا في إيصال صوتنا. واليوم، في عصر الإعلام المفتوح، تصبح إمكانية إيصال الصوت أوسع وأعمق.
لقد كنا نصارع آنذاك من أجل المساواة في الراتب الذي كان يُصرف شهريًا. فكيف الحال اليوم بعد تسع سنوات بلا رواتب، وبلا مصدر دخل، في ظل الفقر المدقع؟ لا نعتقد أن الباحثين سيُفرطون في حقوقهم وكرامتهم، وعليهم أن يواصلوا النضال قانونيًا وقضائيًا وإعلاميًا، للدفاع عن حقهم الكامل في الراتب، مع جميع المستحقات المالية والعلاوات المجمدة منذ أكثر من عشر سنوات، وليس المطالبة فحسب بنصف الراتب، الذي يستكثره علينا وزير المالية، في واقع الغلاء الفاحش، وانهيار سعر العملة المحلية.
وهو الوزير الذي يعيش في رفاهية وامتيازات وبحبوحة عيش، مع حالة ترف قطع الراتب عنا، وعن غيرنا.
ولا أظن أن وزير المالية يؤدي عمله "لوجه الله، والوطن"، أو يتنقل بسياراته الفخمة بلا بترول، أو بلا رواتب ومكافآت لحراسته.
ولا نعتقد أنه مطرود من السكن لأنه لم يجد ما يدفعه للمؤجر، ومن أنه طرد من مسكنه مع أسرته وما تبقى من أثاث منزله للشارع، بطقم شرطة، أو بأمر قضائي، بسبب متأخرات عدم القدرة على دفع الإيجار!
وزير المالية الأعلى من رئيس الوزراء الشهيد
الوزارات السيادية (الدفاع، الداخلية، المالية) أعضاء في حكومة يرأسها رئيس الوزراء. لكننا نشهد لأول مرة وزير مالية شابًا يرفض تنفيذ توجيهات رئيسه المباشر، الشهيد أحمد غالب الرهوي، الذي وجَّه برفع الظلم عن مركزي الدراسات والبحوث، ومركز التطوير التربوي، أسوة بجامعة صنعاء.
بينما استجاب وزير الخدمة المدنية، الدكتور خالد حسين الحوالي، للنظام والقانون وللتراتبية الإدارية القيادية، ورفض وزير المالية تنفيذ التوجيه، ولايزال يصر منذ تسعة أشهر على أنه فوق القانون وأعلى من رئيس الوزراء الشهيد.
وهنا نرى الفارق بين وزيرين في نفس الحكومة ومن نفس الحزب، في موقفهما من القانون، ومن احترام التراتبية الإدارية الوظيفية.
هذا يثير سؤالًا: هل يستند هذا الوزير الشاب في عصيانه إلى "ضوء أخضر" من جهات عليا، كما كان يفعل علوي السلامي في زمن صالح؟
والطامة الكبرى هي تصنيف الوزير لمركزي الدراسات والتطوير على أنهما "مؤسستان إيراديتان"، ووضعهما في قائمة الضرائب والجمارك والنفط، وهو توصيف مختلَق ويخالف الواقع تمامًا.
مركز الدراسات والبحوث، منذ خمسين عامًا جهة بحثية حكومية وتمويله، بالكامل من الدولة، ولا يملك أي مصادر إيرادية. بل قُطعت عنه الميزانية التشغيلية التي أصبحت لا تكفي للحد الأدنى من المتطلبات، بما فيه، عزكم الله اجر تنظيف الحمامات، فكيف بالشغل البحثي!
العالم كله يعلم أن مراكز البحوث المختلفة، في الولايات المتحدة الامريكية، وفي اوروبا، بل وفي العالم كله تُموَّل من الحكومات والدول، ومن شركات القطاع الخاص، بل ومن الخارج أيضًا.
وهي هناك في العالم الرأسمالي المتقدم لا تعتبر مراكز الابحاث، مؤسسات إيرادية، فكيف هي في اليمن الفقير، والذي يعيش حالة حرب، تكون إيرادية!
والسؤال: هل أصبح وزير المالية المعيَّن باسم "أنصار الله" فوق رئيس الوزراء، أم يرى نفسه مؤهلًا لموقع أعلى؟ كل شيء ممكن في هذا الواقع الغريب العجيب، ولكن، ليس هذا على حساب حقوق موظفي الدولة الفقراء الذين لا يملكون سوى التمسك بكرامتهم.
حقًا، نحن نفتقر اليوم إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة.. نفتقر إلى كل شيء، إلا من الكرامة، ومن الإرادة في مقاومة الظلم.
إن الوزير المعني، بتصرفاته غير القانونية، يقدّم أسوأ صورة عن "أنصار الله"، فهو يحرم الباحثين من أبسط حقوقهم -نصف الراتب الذي لم يعد يساوي "فتات الفتات"- في ظل انهيار العملة، ويتمادى في ادعاء أن المركزين "إيراديان". وقد استنكرت بعض قيادات "أنصار الله" هذا السلوك الفردي.
إن الواقع الذي نعيشه هو قمة" الفانتازيا"، والسخرية، بعد أن صار الواقع يفوق الخيال في سخريته التي وصلت حد الخرافة" كوميديا سوداء".
رسالتنا الأخيرة: إلى عقلاء "أنصار الله"
إن هذه الإجراءات التعسفية تذكّرنا بـ"إمبراطور المالية" علوي السلامي.
نحن أمام وطن يتفتت ومجتمع يغلي، وعقول بحثية تتعرض لقمع مزدوج: قمع الحقوق وقطع الراتب.
الواقع الذي نعيشه هو "كوميديا سوداء" تضعنا على أعتاب مجاعة حقيقية.
إن كل الثورات سببها الفقر والجوع وغياب العدل.
الوزير المعني يصر على تصفية حسابات سياسية صغيرة، لا نفهمها وليس لنا علاقة بها، حسابات قد تكون موجودة وقائمة في ذهنه، ويسقطها على موظفي الدولة الفقراء، مستغلًا اضطراب الأوضاع السياسية والإدارية، ليضع نفسه فوق القانون ويدوس على الحقوق المعيشية للناس.
يا سعادة الوزير، السجن والتعذيب والقتل أهون وأشرف من هذا الوضع المأساوي الذي تضع الناس فيه، بعد أن جعلت نفسك أعلى من رئيس الوزراء الشهيد، أحمد غالب الرهوي، برفضك تنفيذ توجيهاته.
الباحثون في المركزين أكبر منك عمرًا وقيمة وخبرة، فلا تجعلها معركة كسر عظم.
نحن المنتصرون فيها بالحق والقانون. وسيُضاف اسمك إلى سجل علوي السلامي وأمثاله.
لقد دفعنا ثمن انحيازنا للعدالة والحرية سنواتٍ من أعمارنا في السجون قبل أن تولد أنت، ونحن اليوم مستعدون لدفع المزيد لمواجهة الباطل. إما العيش بكرامة وحرية، أو الموت الزُّؤام.
سنتجه إلى القضاء الإداري، ثم إلى الإعلام والصحافة، ولكل الوسائل السلمية المتاحة. هذه رسالتنا الأولى إلى عقلاء قيادة "أنصار الله"، قبل أن يسبق السيفُ العذل.
الرسالة القادمة ستكون موجهة علنًا ومباشرة إلى قائد "أنصار الله"، عبد الملك الحوثي، الذي تحدث في المؤتمر القومي العربي عن الحرية والعدالة والحقوق.
نحن لا نطالب بأكثر من العدالة، والحرية، والحق في الراتب. فهل ذلك كثير؟