صنعاء 19C امطار خفيفة

امتحان الشرق وحدود القوة

حين تقول كلمة انسحاب لا تُفهم بوصفها حركة عسكرية بل كإهانة رمزية، وحين تقول حضرموت والمهرة فأنت لا تشير إلى محافظتين بل إلى جملةٍ سيادية كاملة تبدأ بالأمن ولا تنتهي عند الجغرافيا. ومن هنا، يصبح سؤال بقاء المجلس الانتقالي في الشرق سؤالًا أكبر من عدد الألوية، وأصغر من وهم "التحرير"، لكنه حاسم بما يكفي ليكشف حدود القوة وحدود الحلم معًا.

المجلس الانتقالي الذي اعتاد أن يملأ الفراغات بسرعة تفوق قدرة الدولة على التفكير، يجد نفسه هذه المرة أمام فراغ لا يقبل الامتلاء السريع. حضرموت والمهرة ليستا عدنًا ثانية، ولا ساحة قابلة لإعادة تدوير التجربة. هنا الجغرافيا أقل عاطفية، والمجتمع أكثر حذرًا، والذاكرة السياسية أطول مما يتوقعه القادم من منطق السيطرة لا منطق الشراكة.
أول السيناريوهات لا يبدأ بالرصاص بل بالبرود. برود إقليمي محسوب، تتقدمه الرياض التي ترى في الشرق اليمني عمقًا أمنيًا لا يقبل العبث. الضغط هنا لا يُمارس بالصراخ، بل بسحب الهواء تدريجيًا. تقليص الغطاء وتجفيف المجاملات ونقل الخلاف من غرف مغلقة إلى عناوين مكشوفة. حينها سيبدو الانتقالي كمن رفع صوته في غرفة ليست غرفته، لا بطلًا يتحدى، بل طرفًا يخطئ قراءة المكان.
وإذا لم يكفِ البرود، يأتي الاحتواء القسري. لا حرب ولا بيانات نارية، بل إعادة ترتيب المسرح. قوى محلية تُعاد صياغتها وولاءات تُرمم ودعم يُضخ في الاتجاه المعاكس. هنا لا يُهزم الانتقالي، لكنه يُمنع من التمدد، كسيارة أُغلقت أمامها الطرق دون أن تُسحب منها المفاتيح. حركة بلا أفق، وانتشار بلا نتيجة.
أما السيناريو الذي يخشاه الجميع ويتظاهرون بعدم التفكير فيه، فهو الصدام المحدود. اشتباكات موضعية وأطراف تختبر أعصاب الأطراف ووكلاء يتقدمون بدل اللاعبين الكبار. مشكلة هذا السيناريو أنه لا يبقى محدودًا طويلًا، وأنه يستنزف من لا يملك حاضنة اجتماعية كافية. حضرموت والمهرة ليستا بيئة ترحب بالحروب المستوردة، وأي رصاصة هناك تُقرأ بوصفها عدوانًا لا شراكة.
الأخطر من الرصاص، هو التآكل الصامت. حين يتحول الوجود العسكري إلى عبء سياسي، وحين يتبدد خطاب "التمثيل الجنوبي" أمام واقع جنوبي منقسم على نفسه. في الشرق، لا يُنظر إلى الانتقالي كمخلّص، بل كقوة قادمة من خارج السياق، ومع الوقت تتحول المحافظتان إلى عنوان رفض، لا لأنهما ضد الجنوب، بل لأنهما ضد الوصاية.
ثم هناك العالم، ذلك الكائن البارد الذي لا يرفع صوته لكنه يغلق الصنابير. لا عقوبات صريحة بل تعطيل. لا اتهامات مباشرة بل توصيف خبيث: "عامل عدم استقرار". وحين تُكتب هذه العبارة في التقارير، لا تُمحى بسهولة. الخسارة هنا ليست فورية، لكنها استراتيجية، تشبه دينًا يتراكم دون أن يشعر به المدين إلا متأخرًا.
ويبقى السيناريو الأكثر شيوعًا في السياسة اليمنية، التصعيد ثم التراجع. رفع السقف، اختبار الحدود، ثم البحث عن مخرج أنيق. انسحاب يُقدَّم بوصفه إنجازًا تفاوضيًا لا تنازلًا. إعادة تموضع تحفظ ماء الوجه، وتُبقي على بعض المكاسب، وتمنح الجميع فرصة الادعاء بأنهم ربحوا شيئًا ما. سياسة "لا غالب ولا مغلوب"، وهي العبارة التي تحكم اليمن منذ عقود.
رفض الانسحاب من حضرموت والمهرة ليس بطولة بل مقامرة. وكل يوم يمر يرفع كلفة البقاء، عزلة أوسع واستنزاف أعمق واحتمالات صدام لا تخدم سوى الفوضى. ومن يسيء قراءة الفراغ يتحول إلى جزء منه. ومن يظن أن العلم وحده يكفي لبناء دولة، يكتشف متأخرًا أن الدولة لا تُرفع بل تُبنى. وحضرموت والمهرة ليستا مساحة اختبار، بل امتحانًا نهائيًا لمن يريد أن يعرف الفرق بين النفوذ والدولة.

الكلمات الدلالية