صنعاء 19C امطار خفيفة

بيروت في مذكرات طالب يمني... الدرس اللبناني

أعادتني دعوة كريمة جاءتني، مؤخرًا، من بيروت، وتحديدًا من السفير اليمني بلبنان، لملف وجداني ساخن دفنته في أعماقي منذ عقود، وتراكمت عليه منذ ذلك الزمن الجميل في السبعينيات ملفات أخرى عديدة مختلفة في المكان والزمان. والدعوة من الزميل العزيز فيصل تعنى بإلقاء محاضرات في مواقع ثقافية لبنانية أقدم من خلالها عددًا من تجاربي الإبداعية والاجتماعية، ليحس اللبنانيون أن اليمنيين يتواصلون معهم في الضراء والسراء. وهأنذا أتصفح مع القارئ ذلك الملف الوجداني الأثير.

فيصل أمين ابو راس
عندما غادر والدي وكره الهادئ في عدن، مطلع السبعينيات، ليحصل على العلاج الجراحي المتواصل في الخارج، والذي لم يكن متوفرًا في عدن، رأى مع والدتي أن أسافر إلى لبنان للدراسة الإعدادية، بينما يذهب هو ووالدتي إلى جيبوتي للعمل هناك مع أخيه في تجارة ساعات "سيكو". وكان هذا يعني أن أقطن في داخلية المدرسة التي كانت في منطقة "عاليه"، وهي من المصايف التي يفد إليها السياح العرب في لبنان، ودائمًا ما يحيي الفنان الخالد فريد الأطرش حفلة له فيها في منطقة "البيسين"، أي المسبح. ولأن السفر من عدن يومئذ كان لا يسمح فيه للمسافر إلا بدراهم معدودة يحملها معه إلى الخارج، فقد خاطت لي والدتي بطنًا داخليًا في الكوت، وضعت لي فيه بعض المال، ليعينني على تكاليف الغربة. سافرت عبر الخطوط الجوية اللبنانية التي كان وكيلها في عدن صديق لنا من آل باهارون الذين أنشأوا أول شركة طيران خاصة تحت اسم "باسكو". غير أن الأسرة الغانمية اطمأنت إلى هذا القرار على صغر سني وتجربتي في الحياة، لأن على الطرف الآخر في بيروت كانت تنتظرني يد حانية هي يد زميل والدي في الدراسة بالجامعة الأميركية ببيروت في الثلاثينيات، السياسي والشاعر السعودي -الحضرمي الجذور- عبدالله بلخير، رحمة الله عليه.

محمد عبده غانم

نعم لقد كان في انتظاري في مطار بيروت، ومن هناك نقلني بسيارته إلى مدينة عاليه، حيث التحقت بداخلية المدرسة، على أن أزوره في عطلة نهاية الأسبوع. ومنذ تلك الليلة أدركت أنني وصلت متأخرًا عن بدء الدراسة، وكان عليّ أن أبذل جهدًا خرافيًا لألحق بالآخرين في مواد لم يكن لي عليها سلطان، فهناك الرياضيات الحديثة، وهناك اللغة الفرنسية، وهناك عائق اللهجة التي لم أكن أعرفها، وبدا لي أن النحس يلاحقني في مراحل الدراسة المختلفة، ويكفي أن أقول إنني خلال مرافقتي لوالدي إلى لندن، حيث ناقش أطروحته في شعر الغناء الصنعاني، تنقلت بين ثلاث مدارس مختلفة أدرس فيها السنة السادسة الابتدائية، وكنت ما إن أستقر في مدرسة إلا وأضطر إلى التحويل لمدرسة أخرى، مجاراة لتنقل والدي في السكن هنا وهناك.
المدرسة الداخلية في عاليه
هنا في هذه المحطة، وجدت أن فيصل أمين أبوراس كان قد سبقني إلى هذه المدرسة الداخلية نفسها، فتبرع بتعليمي قواعد الرياضيات الحديثة، بينما تبرع الزميل اليمني الآخر محسن شانف شعفل، ابن أمير الضالع سابقًا، بتعريفي على أسس قواعد لغة أبناء السين، أي الفرنسية. وأقولها بملء الفم إنه لولا عون هذين الزميلين لما كان لي أن ألحق بالزملاء اللبنانيين، بل ولم أكمل السنة إلا واسمي على لائحة الشرف. وبعد ذلك لحق بنا الزميل رجل الأعمال الآن عبدالله بن علي السنيدار، وبقينا جميعًا هناك حتى كشرت الحرب الأهلية اللبنانية عن أنيابها، فتفرقنا أيدي سبأ.
عبقرية المكان في لبنان تختزل كل حضارات العالم في ذلك البلد الصغير مساحة، والعملاق ثقافة وإنسانًا.

حوار حضارة

الحياة في الداخلية تصبح ممتعة إذا تمكّنت من عقد صداقات، وطوعت نفسك على أن لا استراحة سوى في عطلة نهاية الأسبوع، وهي يوما السبت والأحد هناك. ويبدو لي أنني كنت نهمًا في القراءة، حتى إنني كنت أقتني كتب جبران خليل جبران وقصص مارون عبود، وأتلذذ بقراءتها، إضافة إلى المنهج الدراسي المتنوع باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية. أما التلفزيون فلم يكن يسمح لنا بمشاهدته إلا ليلة السبت، وكان البرنامج المقدم من بطولة دريد لحام واسمه "غوار الطوشه". ومثلما كان المدرسون من مختلف الطوائف اللبنانية، بل وبعض الأفغان، فقد كان الطلبة من كل الفسيفساء اللبنانية والعربية، لا سيما الخليجية. مدرسة الجامعة الوطنية بعاليه كانت أشبه بكوكتيل من الأديان والأعراق، وهكذا يتعلم المرء الدرس اللبناني الأول، ألا وهو "عش ودع غيرك يعش". ويعزز هذا الشعور أنه لا تكاد تجد لبنانيًا ليس له بعض من أسرته تعيش في المهجر الإفريقي والأسترالي والأميركي، وهلم جرًا. واللبنانيون مارسوا العولمة والحوار الحضاري قبل باقي العرب بكثير، ولذا ينسب الأدب المهجري إليهم. وأذكر أنني فيما بعد زرت مدينة بوسطن الأميركية، وكنت أتساءل إن كان بالإمكان أن أرى مقر الرابطة القلمية التي كان جبران من أهم أعضائها ذات يوم هناك. وهذا الوله برومانسية جبران دفعني إلى زيارة قبره في بشري في المرتفعات الشمالية من لبنان، ذات يوم غطى فيه الثلج وجه الأرض. وفي فترة قياسية انطلق لساني باللهجة اللبنانية، وصرت محل تشجيع معظم أساتذتي كعامر صعب وأنطوان عاصي وعكيف السبع ووليد أبو شقرا، لا سيما مدرس اللغة الفرنسية الذي كان على مسيحيته يتردد على المساجد الإسلامية والأضرحة الدرزية، ربما تحقيقًا لمقولة ابن عربيـ: أدين بدين الحب (...).
وقيض الله لي صديقين؛ الأول سعيد فرحات الذي لم يكن يسكن معنا في الداخلية، إلا أنه كان يبقى ليقضي معي عطلة نهاية الأسبوع، فنتناقش في كل شيء، بما فيه المعتقد الدرزي الباطني، ومعتقدات أخرى كالبهائية وشهود يهوه، وكنا نستمع بالكاسيت لأغنيات المطرب الأيرلندي توم جونز، الذي يغني بإحساس شرقي، وطبعًا نفاضل بين جمال الزميلة فلانة والزميلة علانة، وينتهي بنا الأمر إلى سوق عاليه لمشاهدة أفلام الكاراتيه الشائعة يومئذ، وكذا أكل الكنافة بالجبنة، هروبًا من مائدة الداخلية الروتينية!
وكان تفوقي في الدراسة سببًا لكثير من الغيرة المهنية -إذا صح القول- بين الزملاء الذكور، ومنهم ريمون طوق وعبدالكريم حدرج، أما الزميلات، ومنهن ريما نطفجي وندى قشوع، فقد كنت أيضًا فاقد الشعبية بينهن، وكن يعقدن المقارنة بيني وبين الزميل السنيدار الذي كان أنيق الملبس لبق الحديث مع الجنس الآخر، ويصرف الكثير على تسريحة شعره، لكن الحقيقة بقيت أن اسمي واسم زميلي فيصل لم يغادرا لائحة الشرف منذ أن دخلاها، وهذا تحديدًا ما فرض وجودي.
الصديق الآخر كان محمد خير، وكان يأنس لرفقتي، كما كنت أساعده في الدراسة، وظل محمد هذا يراسلني حتى خلال الحرب الأهلية اللبنانية، ويقول لي إنني نسيت العشرة، وتركتهم يواجهون حربًا ضروسًا. وكنا جميعًا نعرف ما معنى الحرب على الأقل في الجو، إذ إن الصراع بين الطائرات السورية والإسرائيلية خلال حرب أكتوبر 1973م، كان يجري أمامنا في السماء، وكنا نرى الصواريخ المضادة للطائرات التي زودت أميركا بها الجيش الإسرائيلي، فغيرت موازين القوى.

الحمرا

كنت أقضي عطلة نهاية الأسبوع في بيروت، وكانت المنطقة المفضلة لي هي شارع الحمراء، حيث أتجوّل بين السينمات والمكتبات، وهناك مثلًا قرأت كتبًا كان دخولها إلى عدن ممنوعًا، مثل "تحطمت الطائرات عند الفجر" للجاسوس الإسرائيلي باروخ نادل، وكتاب "لعبة الأمم"، وكتاب "العرب ظاهرة صوتية" للسعودي عبدالله القصيمي الذي تزوّج شاعرنا محمد أنعم غالب بكريمته، ولا أنسى أن أستمتع بوجبة الدجاج البروست مع الثوم في مطعم مروش كما أتذكر، ثم أتجول ماشيًا بين صخرة الروشة وساحة الشهداء، وتسمى البرج أو البلد، لأنها قلب بيروت، وكركون الدروز وشارع المكحول قرب الجامعة الأميركية، حيث يدرس قريباي زهير شهاب وعصام لقمان، وحيث أنظر بحنين إلى الحجرة التي كان يتقاسمها والدي مع المرحوم عبدالله بلخير، في الثلاثينيات، داخل حرم الجامعة، وفي هذا يقول:
يذكرنا بعهد قد تولى
بأثواب الشباب وبالشبابِ
ببيروت الجميلة حيث كنا
رفاق العلم ندأب في الطلابِ
وبعض الناس قد أفنى الليالي
هيامًا بالمدامة والكعابِ
وأقضي الليل في شقة قريبي قيصر عبدالمجيد لقمان. أحيانًا كنت أغامر فأذهب إلى زحلة لأكل المازة اللبنانية، أو إلى صيدا حيث أزور رجل الأعمال اللبناني الذي عاش طويلًا في عدن، المرحوم عدنان هيماني، والذي حللت ضيفًا على ابنته الدكتورة ميادة هيماني، في محطة إم بي سي بلندن، فيما بعد.
عبدالله بلخير
لكن التغيير الاجتماعي الأكبر كان حينما لحق بي شقيقي المهندس الشاعر شهاب غانم، ليعمل مديرًا هندسيًا بمصنع أترنيت للأسبست في مدينة شكا شمال لبنان، وكان هذا مدعاة لي لأزوره هناك، وبخاصة في القرية التي سكنها، واسمها أنفة، وكان حضور الحزب القومي السوري قويًا فيها، وقد كتب شقيقي شهاب بعضًا من أجمل شعره عن لبنان في تلك الحقبة.
ويكاد لا يوجد لبناني لا يفهم في الفن، وأذكر أن نقاشًا حادًا جرى بيني وبين المعلم أو سائق التاكسي، ذات يوم، كنت متجهًا فيه إلى طرابلس، حول من هي مطربة لبنان الأولى صباح أم فيروز، وكنت كما هو الحال مع الدكتور عبدالعزيز المقالح، أرى أن فيروز هي الأفضل عربيًا، فاستل المعلم مسدسًا، وهددني بالقتل إذا عدت وبخست صباح أمام فيروز. لقد كانت تجربة مرعبة.
كانت صلتي باليمن لا تنقطع، فهناك الصحف التي تتشيّع للجنوب، ومنها "المحرر"، وهناك الصحف التي تبايع الشمال، ومنها "الحياة". والصحف والمجلات اللبنانية أحد أهم المنتجات الفكرية لذلك البلد. كذلك سمح لي التجول المستمر أن أشاهد الممثلة مريم فخر الدين والممثل نهاد قلعي والسيدة فيروز في شارع الحمراء، ثم أحضر مسرحيتها "المحطة" التي غنت فيها لأول مرة دون أن يكون إلى جوارها زوجها عاصي الرحباني الذي غادر للعلاج من جلطة دماغية، وهي تذكر ذلك في أغنيتها "سألوني الناس عنك يا حبيبي". ومن الأفلام التي أتيحت لي مشاهدتها هناك، الفيلم الكويتي "بس يا بحر"، وفيلم "خلي بالك من زوزو" الذي غنت فيه الممثلة سعاد حسني، وفيلم "حبيبتي" الذي يحكي قصة حب بين فاتن حمامة ومحمود يس في لبنان، وقد وضع موسيقاه منصور الرحباني، والفيلمان الأخيران لفريد الأطرش "زمان يا حب" و"نغم في حياتي". وكان لفريد كازينو يحمل اسمه في بيروت في فترة لم يكن فيها على وفاق مع البعض في مصر، ففضل أن يستقر بلبنان، وفيه لحن أغنية "يا حلوة لبنان"، و"كلمة عتاب يا حب" التي لم يكملها، وإنما غنتها بعده وردة الجزائرية، فشوّهتها. وفريد هو الفنان العربي الوحيد الذي كان يحمل أربع جنسيات عربية، هي المصرية والسورية واللبنانية والسودانية.

أعلام كبار

أما عندما كان والدي يحضر من جيبوتي لزيارتي في عطلة الصيف في لبنان، فقد كانت تتاح لي الفرصة لأن أقابل بمعيته أعلامًا كبارًا مثل منير أو زهير البعلبكي وألبير أديب صاحب مجلة "الأديب"، وسهيل إدريس صاحب مجلة "الآداب"، ويوسف أبش ومحمود الغول وإحسان عباس، في الجامعة الأميركية.
ألبير أديب
وقد قامت مجلة "الأبحاث" الصادرة عن الجامعة الأميركية، بنشر النص الإنكليزي لأطروحة شعر الغناء الصنعائي، ثم قام الوالد بترجمته إلى العربية، حيث قام بنشره الفقيد النعمان الابن، وكذا الشاعر الكويتي -الوهطي الأصل- أحمد السقاف، ومن اليمنيين السفير الشاعر أحمد محمد الشامي الذي تكرم بمنحنا جوازات سفر للجمهورية العربية اليمنية، والمفكر الأديب زيد الوزير، ونجله طارق، وعرفت أنهم يمتّون بالقرابة إلى الزميل فيصل أمين، والصحافي الفقيد محمد ناصر محمد صاحب جريدة "الطريق" العدنية، وكان حينها يصدر مجلة ملونة في بيروت اسمها "اليمن الديموقراطية"، ثم قضى في حادثة طائرة الموت بحضرموت، وكذا قابلت مع والدي الفقيد محمد أحمد محمد نعمان، وفيما بعد ذهبت إلى مأتمه عند اغتياله في بيروت، ولا شك في أن سماعي باقتناص اليمنيين المعارضين للحكم بدءًا بمحمد علي الشعيبي صاحب كتاب "اليمن الجنوبية خلف الستار الحديدي"، ثم رجل الأعمال الحروي والنعمان الابن، ومحاولة اغتيال الشاعر الشامي، جميعها أساء إلى العلاقات اللبنانية -اليمنية. فحتى الصحفي اللبناني ميشيل أبو جودة الذي كتب محذرًا من الغرباء القادمين من عدن، ما لبثت قوى الظلام أن اختطفته لعدة أيام، وأذكر عند مقابلتي المرحوم أحمد محمد نعمان، والذي كان يحب أن يتكلم العربية الفصحى، أنه قال: "الموت شيء طبيعي، لكن طريقة الموت هي التي تهم"!
محمد أحمد النعمان
ومن الطريف أن أذكر أن والدتي، رعاها الله، منيرة محمد علي إبراهيم لقمان، كتبت الشعر للمرة الأولى، في مفارقتي لها، حيث تقول:
(عاليه) يحميك العزيز العالي
فلقد أقام بك الحبيب الغالي
لولا طموح العلم ما فارقته
والنفس قد ضاقت بذي الأحوالِ
لم يبقَ لي من بعده أمل سوى
لقيا أبيه محقق الآمالِ
وإذا كتب لي أن أزور لبنان وهو يخرج من محنته الحالية، فلا شك في أن "عاليه" ستكون محطتي، ولم لا فإن حاجتي إلى البكاء لا تضاهيها حاجة الشاعر الجميل أحمد العواضي، لكنه الدمع يستعصي عليّ، أو كما قال الشاعر الطبيب إبراهيم ناجي في قصيدته "ختام الليالي" التي لحنها الفنان اليمني الراحل أحمد قاسم:
غير أني/ أستنجد الدمع لا/ ألقى مكان الدموع إلا نحيبا/ جفّ دمعي فلست أبكي حبيبا/ وبحبك يا لبنان!

الكلمات الدلالية