صنعاء 19C امطار خفيفة

اليمن من صراع خارجي إلى تمزق داخلي.. ضرورة ميلاد طرف ثالث

منذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2014، لم يكن أحد يتصور أن يتحول هذا الصراع من مواجهة ذات طابع إقليمي إلى حرب أهلية متداخلة ومتشابكة إلى هذا الحد. كانت بدايات الشرارة مرتبطة بتمدد جماعة الحوثي وسيطرتها على مؤسسات الدولة في صنعاء، وما تبع ذلك من تدخلات إقليمية تحت شعار "استعادة الشرعية". لكن ما حدث خلال السنوات اللاحقة كشف أن الحرب لم تكن مجرد مواجهة بين الداخل والخارج، بل مسارًا معقدًا تحوّل تدريجيًا إلى حرب داخلية متعددة الأوجه، تتصارع فيها القوى السياسية والعسكرية اليمنية نفسها، كل منها بدعم خارجي يوجه ويوزع النفوذ حسب مصالحه.

لقد صارت اليمن، كما يصفها الكثير من أبنائها، ممزقة إلى مربعات نفوذ. الحوثي يفرض سلطته بقوة السلاح في الشمال، والمجلس الانتقالي يهيمن على أجزاء واسعة من الجنوب بدعم واضح، بينما تتوزع القوى المرتبطة بحزب الإصلاح وأطراف أخرى بين مناطق متفرقة، بلا مشروع جامع ولا رؤية وطنية موحدة. بهذا الشكل، لم تعد الحرب مجرد مواجهة بين فريقين كبيرين، بل سلسلة من النزاعات المحلية التي اتسعت حدتها بسبب التدخلات الإقليمية والدولية، وبسبب غياب قيادة وطنية تستطيع الإمساك بزمام المبادرة.
الأخطر من ذلك أن كل طرف سياسي أو عسكري في الداخل صار يبرر صراعه بأنه "حرب لتحرير اليمن" أو "مواجهة مشروع خارجي"، بينما الحقيقة على الأرض تشير إلى أن اليمنيين باتوا وقودًا لصراعات الآخرين. المواطن البسيط صار رهينة الحصار والغلاء وانهيار الخدمات، بينما يتسابق أمراء الحرب إلى توسيع سلطتهم. وبهذا المعنى، فإن البلاد تعيش حربًا لم تعد لها هوية واحدة، بل عدة حروب تتغذى من الانقسامات الداخلية أكثر مما تتغذى من التدخلات الخارجية.
ومن هنا تبرز الحاجة الماسة -وربما المصيرية- إلى طرف ثالث: طرف وطني مستقل غير منخرط في الصراعات المسلحة، يمتلك القدرة على رؤية الصورة كاملة بعيدًا عن الاستقطابات. طرف سياسي محنك يستطيع "الإمساك بالعصا من المنتصف"، كما يُقال، ويعمل على إعادة ترتيب الأولويات: الأمن، الحياة، الاقتصاد، والسلم الأهلي.
هذا الطرف الثالث لا يمكن أن يكون حزبًا من الأحزاب التقليدية، ولا قوة مسلحة جديدة تضاف إلى مشهد التشظي، بل يجب أن يكون مجلسًا مجتمعيًا واسعًا، يمثل قاعدة شعبية مختلفة في تركيبتها وانتماءاتها. مجلس يضم أطباء، أكاديميين، صحفيين، إعلاميين، معلمين، مهندسين، محامين، نشطاء مجتمع مدني، ورجال ونساء من مختلف فئات الشعب. مجلس لا يبحث عن سلطة ولا يرفع السلاح، بل يعمل كـ مرصد وطني يتابع ما يجري على الأرض، يوثق الانتهاكات، يقيس نبض الناس، ويضع رؤية مشتركة للسلام من داخل اليمن نفسه.
والأهم أن يمنح هذا الكيان لنفسه مسمّى رسميًا وواضحًا، وأن يتصرف باعتباره ممثلًا للصوت الشعبي غير المسلح. بهذا الشكل يمكنه أن يتواصل مع الدول المؤثرة والهيئات الدولية، وأن يقدم تقارير دورية وموثوقة حول حقيقة الوضع، ويقترح حلولًا عملية للوصول إلى تسوية سياسية عادلة. فالدول الكبرى، رغم تأثيرها، لا تستطيع إنهاء الحرب ما لم يظهر طرف يمني ناضج قادر على بلورة "الإرادة الداخلية" للسلام، بدلًا من ترك مستقبل البلاد رهينة لحسابات القوى المسلحة.
إن الدعوة إلى إنشاء هذا المجلس ليست مجرد فكرة رومانسية أو حلمًا مثاليًا، بل ضرورة ملحّة تفرضها سنوات من المعاناة المستمرة. فبدون صوت ثالث مستقل، ستظل الحرب سجنًا مفتوحًا، وستبقى القوى المتصارعة تتبادل الاتهامات، بينما يتدهور الوضع أكثر فأكثر. إن اليمن بحاجة إلى تجديد الحياة السياسية عبر مبادرات شعبية ومؤسسية تُعيد ثقة الناس بأن التغيير ممكن، وأن السلام ليس تنازلًا بل مشروع بقاء للدولة والمجتمع.
إن اليمن اليوم يقف على حافة مفترق تاريخي: إما الاستمرار في دوامة الحرب التي فقدت معناها، وإما التوجه إلى مسار جديد يكون فيه الشعب -لا المليشيات ولا الأحزاب المتصارعة- هو صاحب القرار الأول. وميلاد "مجلس عام أو شبابي وطني" قد يكون هو الخطوة الأولى نحو هذا المسار، خطوة تمسك بالعصا من المنتصف لتعيد لليمنيين صوتهم، وحقهم في العيش بسلام.

الكلمات الدلالية