صنعاء 19C امطار خفيفة

كتاب الأعماق!

كتاب الأعماق!
دليل السُراة

أُركز دائمًا على عنوان الكتاب ثم غلافه. كثيرون لا يجيدون اختيار من يصمّم لهم أغلفة كتبهم، ولا يجيدون التقاط اللحظة وتحويلها إلى عنوان للكتاب أو اسمه. اختاروا ما شئتم… هنا عنوان ولا أجمل، وغلاف يدندن في أقاصي الليالي…

"دليل السُراة"، سمعتُ أعماقي تدندن: "واساري سرى الليل"، وذهب بالي إلى أمين مغلّس…
قال: يا صاحبي، نزلتُ عدن أيام ما كنا في الليالي المدلهمات، كلٌّ منا يمسك ذيل الجمل في "خَبت الرجاع". ومن شدة الريح المحمّلة بالغبار، إذا فلتت يدك ضعتَ، ولا ترى بعدها البحر ولا سماء عدن المطرّزة بأغنية سرى الليل وأنا يم… ويضيع الأمل…
كتاب جعلني أدمع أكثر من مرة، وأعيد السفر من رأس نقيل "الجَواجب" عندنا في كدرة قدس، هبوطًا نحو سائلة "صبُن"، ثم المصلى حيث نجمة سعيد الشيباني: يا نجم يا سامر فوق المصلى…
هناك ينتظر الحالمون الأمل يأتي على سيارة لاندروفر أو بابور دُوش أو دَبُل إجزاز. وعند ابن نعمان راجح في دكانته نظل صامتين نتخيّل "عقبة العذير" وخَبْت الرجاع والمفاليس وكود النمر ولحج ودار سعد، حتى تلفح خدودنا وأرواحنا نسمات بحر عدن… يا ساعية إلى أين المسير…
استفز أعماقي كتاب الصديق مصطفى راجح — اتركوا الأستاذية بعيدًا، نحن نبحث في أعماق الإنسان عن الإنسان — الذي كدنا نفقده…
كتاب يسافر بك عبر طريق ظل الإنسان طوال أكثر من 120 عامًا يذهب ويجيء منه، حاملًا حلمه، عائدًا إلى من ينتظرونه بالأمل… ما تبقّى من خيط رفيع ربط الإنسان بذاته وحلمه، وغدٍ أتى لكنه بدأ يخبُو. لكن الكتاب أبى إلا أن يصرخ في وجه اليأس: انظروا إلى أعماقكم، فتّشوا عنكم… هناك ستجدون الأمل.
كتاب شجن، كأغنية ظل يرددها الجمّالة والحمّارة على صدر ذلك النقيل والسيل القادم من الوهاد والخبوت. وبرغم الضنك وجدوا حلمهم، فانتصروا للحياة رغم جبروت اليأس…
يقول مصطفى راجح:
"لن نحدّق في الهاوية التي علّقنا على أطرافها، لن ندع الجحيم الذي مررنا به ينبت في دواخلنا.
في أشد اللحظات قتامة ويأسًا نعود إلى أجمل ما فينا، نلوذ بروح اليمن العصية على الانكسار."
هنا الخلاصة… أن يشتدّ ليل اليأس، فعليك أن تلُوذ إلى أعماقك بحثًا عن الجمال… وستجده.
قلت:
يا عم عبد الرزاق، مالك تتنهد وأنت تنظر إلى المصلى والمفاليس؟
قال وروحه تدمع:
هناك يا بُني أجمل أيامنا، برغم التعب لم نفشل…
كان خويلد بالقرب منه، تسكب الدمعات على خديه، يتذكر أيامه ولياليه وينتصر للفرح، يتذكره في مارسيليا حيث بيض الأجساد "يتعسّنفين" كأشجار "الدُندل" حين تهب الريح صاعدة من بحر عدن عبر خبت الرُجاع، عبر الطريق الأثير إلى وادي الجنّات… وأي جنّات كان وكانت…
يقول "دليل السراة":
حين يلبسك اليأس عليك أن تلوذ بأعماقك. هناك الجواهر، هناك اللآلئ، فقط عليك أن تغوص وتبحث. وعند أن تحسّ بأن حلمك يتسلل منك، عد إلى أعماق الوطن، حيث أودع الله جمال كل شيء… من كلمة هي قصيدة، هي شعر، هي قصة، هي رواية، هي أغنية لا تزال تدوي في أعماقنا: واساري سرى الليل… وحيث لا تزال النجوم تسافر إلى مخابئ القمر…
كتاب يسافر بك في أعماق الكلمة التي هي خير معبّر عنك، عن ذاتك، عن فرحك، عن حزنك، عن ذاتك التي تذرذرت ذات ليل بين ذرات الغبار ورياح لا تصعد إلا من بحر عدن… تسافر في القرى وأنفُس البسطاء وجوانح الليل…
أتوزع بين قهوتي وبين صفحات الكتاب، وأحاسيس أمل تملأ روحي بعد أن عدتُ من جولة طويلة في أعماقي بحثًا عني، وعن اليمن الذي يكاد أن يتشظّى… لكن دليل السراة يصرخ: "لا… عودوا إلى أجمل ما فيكم."
أعود إلى محمد جمعة خان، والقمندان، وأيوب، والمرشدي، والأنسي، والحارثي، وجحّاف القادم من حجّة عبر سهول تهامة، إلى المخلاف حيث عثمان أبو ماهر. لا أنسى المرور بالتُّربة حيث مرّ ذات زمن علي الأنسي ليغني: يا شاري البرق من تهامة. وللسنيدار: عن ساكني صنعاء هات، وأفوج النسيم… أبحث في الرواية، في القصيدة، في الاسم المرموق، في كل أشكال الثقافة عني… وعنه… قبلي…
أعماق الإنسان هنا ممتلئة باللآلئ، فقط من يبحث وينقّب… وفي أعماق اليمن الممتد بين البردوني والمقالح يوجد الكثير من تبر التراب…
يقول مصطفى:
"في اللحظات القاتمة، حين يهدد الخراب كل شيء، يكون الحديث عن إحياء الهوية الثقافية الوطنية لليمن ضرورة وجودية، وليس مجرد حنين للماضي الذي يشبهنا."
فتّش عن اليمن في أعماقك.
فتّش عنك في أعماق أعماقك.
ستجده… وتجد نفسك.
لا حل غير هذا… هذا إذا كنتَ تبحث عن المستقبل الذي يكاد يختفي وراء الأفق، والحلم الذي يُصادَر… وعلينا استعادته.
جدير هذا الكتاب بالقراءة، وبأن تحتفظ به في الرف الأقرب إلى رأسك، تدنو منه كلما يدنو منك اليأس…
هل قلتُ شيئًا؟
أتمنى ذلك.

الكلمات الدلالية