صنعاء 19C امطار خفيفة

قراءة في «مبحث وجوب التعبد بالآحاد» لسلطان الشحر والمكلا وعلّامتها صالح بن غالب القَعِيطِي

في عام 2007م، أعطيت الأخ الزميل محمد علي زيد الباحث في الفيزياء، كتاب «رفع الخبط عن مسألة الضغط»، لعلّامة حضرموت وشاعرها الأكبر أبي بكر بن شهاب. والكتاب جواب سؤال وجهه تلميذه سلطان حضرموت -الشحر والمكلا- العلامة صالح القعيطي، إليه؛ يسأله عن الضغط الجوي، فأجابه ابن شهاب بمؤلفه هذا، وطفق يناقش علماء الطبيعة المتأخرين كباسكال وغيره في مسألة الضغط الجوي.

تناول الأخ محمد علي زيد، ابن شهاب من ناحية الفيزياء، كما تناولته من الناحية الأدبية في ندوة أقيمت بِـ«مؤسسة العفيف الثقافية»، بعنوان «أبو بكر بن شهاب أديبًا وفيزيائيًا»، ونشرت حينها مقالتي الأدبية في صحيفة «الأيام».
وإذا كان شخص مثل ابن شهاب في القرن الرابع عشر الهجري على اطلاع على آراء علماء الطبيعة فِي مسألة يجهلها كثير من علماء عصره، ويجرد قلمه ومعرفته لمناقشتهم، بل نراه يجري التجارب أيضًا لِيردَّ عليهم، فإننا نشعر بالأسف والحسرة حين ندرك كم تخلفنا عَمَّا كان عليه مَنْ سَبقنا.
كَمَا أنَّك إذا قرأت رسالة سلطان الشحر والمكلا وعلامتها صالح بن غالب القعيطي (ت: 1375هـ/ 1956م) «مبحث وجوب التعبد بخبر الآحاد»؛ وهي رسالة ناقش فيها حجية خبر الآحاد، سيخيل لك عند قراءتها أنَّ من كتبها شخص عصري ليبرالي. فالأفكار التي طرحها في خمسينيات القرن المنصرم، والتي تدور حول الأحاديث النبوية وتضخمها وتناقضها، ومعارضة بعضها لصريح القرآن، ومناقشته لحجية أخبار الآحاد، تجعله في مصاف علماء الدين المجددين المستنيرين الذين يُهتَدى بأقوالهم، ويؤخذ بآرائهم.
إنَّ مبعث الأسف هو ذلك التراجع الذي منينا به، والتخلف الذي صرنا إليه؛ فالذي فقدناه كان معالم وبدايات نهضة عربية كانت ستمضي بنا في غير الطريق الذي وجدنا أنفسنا فيه.
الحديث عن السلطان صالح القعيطي فَضاءٌ واسع. فهو علامة عبقري، وأديب وشاعر، يجيد عدة لغات إلى جانب العربية: الأوردية، والإنجليزية. وعلى دراية بالموسيقى الشرقية إلى حد معرفة النوتة والتصحيح للمغنين والتبيين لهم مواضع خطئهم.
اهتم السلطان صالح بالتعليم في حضرموت، وَخَصَّصَ رُبع إيرادات المكلا لصالح التعليم، وتطويره والنهوض به.
وله مؤلفات، منها: الآيات البينات، واختصاره لنيل الأوطار، للشوكاني، ورسالة حول وجوب التعبد بالآحاد. وهي موضوع حديثنا هذا. والأحكام الشرعية، والرحلة السلطانية. والهندسة العملية للملاحة البحرية، والأسرار المنطوية في المثلثات المستوية. والطريقة الواضحة إلى الجبر والمقابلة.
تعدى السلطان صالح العلوم النظرية إلى التصنيع؛ فصنع بنفسه مَصعدًا يَدويًّا في قصره، بعد أن ضعفت حركته، وثقل وزنه وصعب عليه الصعود إلى عِلِيَّة قصره على قدميه.
ومن قرأ مبحثه حول وجوب التعبد بالآحاد، وغيره من أدبيات القرن الرابع عشر الهجري، يلاحظ أنَّ الفكر الديني في العالم العربي بعامة، وفي اليمن بشكل خاص، كان قد وصل إلى مرحلة تجاوز فيها كثير من مشكلات الماضي. فالنهضة الأدبية والعلمية في حضرموت لم تكن تقل أهمية وزخمًا عن النهضة الأدبية بمصر.
وفي مصر كَانَ الأزهر الشريف قد تبنى مسألة «التقريب بين المذاهب الإسلامية»، وأصدر مجلةً تُعنى بشئون التقريب، وكتب فيها كبار علماء المذاهب الإسلامية: شِيعةً، وسنة، وإباضية.
وقطع في دعوته شوطًا كبيرًا؛ عن طريق عقد «مؤتمر التقريب» الذي حضره كبار علماء الملة من جميع المذاهب الإسلامية، وتباحثوا فيه شئون إدارة خلافاتهم على مائدة الحوار والنقاش البناء؛ وكان نتيجة ذلك أن أخذ القانون المصري في الأحوال الشخصية من فقه الشيعة الزيدية، كما أخذ من فقه الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، ومن فقه كل من الأئمة: مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وابن حنبل، وابن حزم الظاهري، وابن تيمية الحنبلي.
أمَّا اليمن فقد ساد فيها التقارب والوئام والتسامح المذهبي والديني أيضًا النابع من قيم أصيلة في الدين الإسلامي. وكان لمدرسة الاجتهاد في اليمن دور كبير في هذا التقريب.
لقد كَانَ بالإمكان الانطلاق والبناء على ما تَمَّ إنجازه، لكن ما لبث العالم الإسلامي أن رَجعَ القهقرى، وفقد كثيرًا مِمَّا كانَ حققه وَرَاكمهُ على مدى تاريخ طويل، بسبب انتشار السلفية الوهابية، وجماعات الإسلام السياسي؛ فَأدَّى إلى فشو التعصب وانتشار التطرف والغلو والإرهاب في جميع البلاد العربية دون استثناء.
ولندلف الآن للحديث عن موضوع الرسالة..
يذكر السلطان العلامة صالح أنَّ بداية تدوين الحديث تعود إلى عصر الصحابة أنفسهم، وأنَّ عدة منهم كانوا يكتبون ويحدثون مِمَّا كتبوه. فيذكر عن «صحيح البخاري»، أنَّ عبدالله بن عمرو كان يكتب الحديث. لكنه يعود فيستدرك بأنَّ معظمهم كان يحفظ الأحاديث ويرويها من صدره. كما يذكر حديثًا في «صحيح مسلم» ينهى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عنه سِوى القرآن.
يقول السلطان صالح: «فهذا الحديث يدل على أنهم قد كانوا نُهُوا عن كتابة الحديث. وقالوا: إنَّ السبب في ذلك هو خشية النبي -صلى الله عليه وسلم- من اختلاط أحاديثه بالقرآن».
ويذكر عزم عمر بن الخطاب أيام خلافته على جمع الأحاديث، واستشارته الصحابة؛ فأشاروا عليه بأن يفعل، فاستخار الله شَهرًا، ثُمَّ قال: «إني كنت أريد أن أكتب السنن. وإني لا أشوب كتاب الله بشيءٍ أبدًا». وَعَدلَ عن كتابتها، وكتب إلى الأمصار: مَنْ كان عنده شيءٌ فليمحه.
ويقول: «وظلت الأحاديث بعد ذلك تكثر وتتداول؛ حتى جمع منها ما صح لدى جامعيه في عهد المأمون. وقد بذل جامعو الحديث قُصارى جهدهم في لقط الأحاديث الصحيحة من الموضوعة بقدر طاقتهم، سيما منهم البخاري ومسلم؛ فقد أبديا ما في وسعهما من الدِّقَّة والحرص على تفنيد الأحاديث الصحيحة من الموضوعة».
ومع ذلك، فقد جرح بعض العلماء كثيرًا من الأحاديث التي أثبتها البخاري ومسلم على أنها صحيحة. قال النووي في «شرح مسلم»: «قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديثَ أخلا بشرطهما فيها، ونزلت عن درجة ما التزماه».
ويقول: «ذلك أنَّ الجامعين اعتمدوا في تنفيذ روايتهم على السند، وكان أساسهم الثقة بالرواية في قبول الحديث أو رفعه، ولكنه لم يكن وحده كافيًا»(ص3).
ويوافق السلطان صالح المعتزلة والزيدية باعتماده على حديث العَرْض؛ وهو عرض الحديث على القرآن، فيقول: «ولو عرضوا الأحاديث على كتاب الله، وميزوا الغَثَّ من السمين بمقياس القرآن العظيم، وبالدراية أيضًا لنجحوا في مهمتهم أكثر من نجاحهم باكتفائهم بجرح وتعديل الروايات والسند».
وَذَكَرَ حَديثَ العَرْض: «إنكم ستخلفون (كذا ورد! والصواب: ستختلفون) بعدي؛ فَمَا جاءكم عني، فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فمني، وما خالفه فليس عني».
ويعقب على ذلك قائلًا: «فهذا هو الطريق المستقيم لمعرفة الصحيح من السقيم. وقد أخذ به أئمة المسلمين منذ العصور الأولى. ولكن بعضًا من علماء الأصول حَطُّوا من قدر هذا الحديث حتى قالوا: إنه من وضع الزنادقة».
ويرد على هذا القول: «والحديث نفسه يدل على صَداقته، فلا يحتاج إلى دليلٍ آخر؛ لأننا لا نقدر معرفة الصحيح من الفاسد إلا بدليل قطعي. ولا يوجد عندنا دليل قطعي سوى القرآن العظيم الذي وصل إلينا بالتواتر؛ فهو إذن يفيد اليقين. كذلك الأحاديث المتواترة، فقد حكموا بقطعيتها، ولكنها قليلة جدًّا...، فَلمْ يَبقَ لدينا شيءٌ لمعرفة الصحيح من الفاسد إلا عرض الأحاديث الأحادية على كتاب الله».
ويذكر عن ابن خلدون: «وأنني لا أعتقد صِحَّة سند حديث، ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن، وإن وَثَّقوا رجاله. فَرُبَّ رَاوٍ يُوثَّق للاغترار بظاهر حاله، وهو يسيء الباطن» (كذا ورد ولعل الصواب: وهو سيئ الباطن).
أقول: واعتبار السلطان صالح للقرآن الكريم كمرجعية عليا حاكمة ومهيمنة على غيرها، تصحيح لمسار تهميش القرآن لصالح الحديث، وجعل الحديث حاكمًا عليه، بل وعند بعض العلماء ناسخًا له.
حتى النحاة فإنهم جعلوا عمدتهم الشعر الجاهلي؛ مع اختلاف رواياته، وتطرق الضرورة التي يقتضيها نظمه، وإهمال القرآن، وتقريرهم لبعض قواعد يشهد القرآن ببطلانها.
كَمَا يُشبه تجاوز السلطان وإغضاؤه عن طعن علماء الجرح والتعديل لحديث العرض بِناءً على حجة موضوعية... يشبه في صنيعه العلامة محمد بخيت المطيعي الحنفي في تقريضه لمجموع «الروض النظير شرح مجموع الفقه الكبير»، حين عرض لطعن علماء الجرح والتعديل لراوي مسند الإمام زيد أبي خالد الواسطي، فرد عليهم قائلًا: «لسنا نتعرض للقال والقيل جَرحًا وَتَعديلًا في الإمام الجليل؛ راوي هذا المجموع، أصل شَرحِنَا هذا؛ لأنَّ هذا نَظرٌ في حال مَنْ قَال، ونحن إنَّمَا نَخصُّ نَظرنَا بِالمقال. فإنَّ الحق يُعرفُ به الرجال، ولا يعرف هو بالرجال. فَمتى كَانَ القَولُ صًحيحًا، فلا يهمنا ما قيل في قائلة تَعديلًا وتجريحًا».
ويتحدث السلطان صالح عن النقد الداخلي أو الباطني للمتن الذي يؤكد عليه نُقَّاد الروايات التاريخية فيقول: «ولو انتُقِدَت الروايات من جهة فحوى متنها كما تنقد من جهة سندها؛ لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض. وقد قالوا: إنَّ علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن، أو القواعد المقررة في الشرع، أو للبرهان العقلي، أو لِلحِسِّ والعيان وسائر اليقينيات».
أقول: وهو بذلك يوافق باحثين عصريين انتقدوا بعض الأحاديث كإبراهيم فوزي في كتابه «تدوين السنة».
ويذكر السلطان صالح مكابدة جامع الصحيح الإمام البخاري مَشاقّ الأسفار لجمع الأحاديث وتمحيصها، وأنه لخص من ستمائة ألف حديث أربعة آلاف على وجه التقريب؛ وهي التي صحت لديه.
وأنَّ الإمام أبا حنيفة لم يصح عنده سوى سبعة عشر حديثًا، ومالك ثلاثمائة حديث، والبخاري ألفين وستمائة.
ويذكر أنَّ الأحاديث جُمِعَت بعد مضِي قرنين، بعد أن كانت محفوظة في صدور الرجال، وبعد أن فشت الفتن، وكثرت المنازعات في أمر الخلافة في الدولة الإسلامية؛ فاتخذ المغرضون سلاح الأحاديث؛ لتأييد مقاصدهم؛ فأدى ذلك إلى اختلاف كثير من الروايات(ص5).
ويقول: «لَمْ يُجمَعْ الحديث إلا في عهد متأخر من عصر الأمويين. وقد أَمرَ عمر بن عبدالعزيز بجمعه بعد أن أصبح الحديث الصحيح في الحديث الموضوع كالشَّعرَة البيضاء في جلد الثور الأسود، كَمَا قَالَ ذلك الإمام الدارقطني».
«وبعدما قُتِلَ عثمان، وَقَامتْ الحروب الأهلية بين المسلمين بدأت الأحاديث الموضوعة تكثر إلى حَدٍّ أنكره علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حتى رُوِيَ عنه أنه قال: ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا ما في القرآن، وما في هذه الصحيفة أخذتها من رسول الله فيها فرائض الصدقة».
وقد كثرت هذه الأحاديث كَثرةً رَاعَت المسلمين؛ لمنافاةِ الكثير منها لِمَا في كتاب الله. وقد أُذِيعَ مِنْ هذه الأحاديث الموضوعة عَشراتِ الألوف، وكان بينها من الاختلاف والتضارب ما لا يخطر بالبال»(ص6).
(للحديث بقية).

الكلمات الدلالية