قراءة سريعة في الجزء الثاني من كتاب "الإنسان موقف" للفريق السامعي
تلقيت بكل امتنان وسرور الطبعة الثانية من كتاب "الإنسان موقف"، من مؤلفه الصديق الفريق سلطان أحمد السامعي. والكتاب يقع في 317 صفحة من القطع المتوسط، يمثل في جوهره وثيقة نادرة لثلاثة عقود عاشتها اليمن بين الأمل والقلق، وبين الممكن والمستحيل. وقد جمع المؤلف في هذا الإصدار مقالاته وتحليلاته وحواراته التي دوّنها خلال فترات مختلفة، فكان الكتاب أشبه بسجل تاريخي لا لوقائع السياسة فحسب، بل لنبض الإنسان اليمني في لحظات التحول العميق.
يضم الكتاب ثلاثة أبواب؛ الأول لمقالات نشرها بين عامي 1989 و1995، وهي مقالات تعكس بدايات صوته النقدي الجريء وهو يتابع القرارات المرتجلة للنظام السابق محذّرًا من عواقبها، وكأنما كان يرى ما سيقود إليه ذلك من انحدار، وهو ما عاشه اليمنيون فعلًا بعد سنوات. أما الباب الثاني "زلزال الهضبة الوسطى"، فيعرض مقالات نشرها بين 2000 و2012 في صحف مستقلة ومواقع معارضة، وتكشف بوضوح حجم الهواجس التي راودت الكاتب وهو يرى البلاد تتجه نحو منعطفات خطيرة. هذه المقالات جاءت كتنبيهات مبكرة لما نعيشه اليوم، تنبيهات تجاهلها صناع القرار آنذاك فكانت النتيجة سلسلة من الأحداث المزلزلة.
ويأتي الباب الثالث من الكتاب في صيغة حوارات صحفية، تتضح فيها شخصية السامعي أكثر من أي مكان آخر؛ فهو فيها صريح، غير مجامل، يتحدث عن أخطاء النظام السابق وعن مخاطر القرارات غير المحسوبة. وفي أحد هذه الحوارات وجّه رسالته الشهيرة لعبدالولي الشميري صاحب "ألف ساعة حرب"، قائلًا: "نحن بحاجة إلى ألف ساعة حوار وليس ألف ساعة حرب". وقد تجسدت هذه الفكرة بعد أكثر من عقد حين انعقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل لستة أشهر متواصلة، ليخرج بوثيقة تاريخية تعد أعظم ما أنتجه اليمنيون منذ سنوات طويلة، بعد "وثيقة العهد والاتفاق" التي وئدت عقب حرب 1994. تكررت المأساة مرتين؛ الأولى بتحالف رأس النظام السابق مع حزب الإصلاح في 1994، والثانية بتحالفه عام 2015، لكن اللعبة لم تكتمل كما أراد، وكأن الدنيا تميل لأن تكون "دار جزاء" في لحظة ما.
افتتح السامعي كتابه بمقال لافت عنوانه "قراءة منصفة للتاريخ"، قدّمه كمفتاح لفهم بقية الصفحات. يؤكد فيه أن الكتاب محاولة لتوثيق مرحلة من أخطر ما عاشه اليمن، مرحلة اشتدت فيها التهديدات وتكثفت الضغوط عليه شخصيًا، لكنه بقي ثابتًا لا يساوم، يقرع ناقوس الخطر ويشير إلى العواقب الوخيمة لنهج الحكم القائم في تلك السنوات. كانت مقالاته تتعمق في قراءة التاريخ لتستشرف المستقبل، ولذلك جاءت تحذيراته وكأنها نبوءات تبصر ما سيحدث لاحقًا بعد الانقلاب على العملية السياسية السلمية والتوجه نحو حكم السلاح.
كتب الأستاذ عبدالإله القدسي مقدمة الكتاب، ووصف العمل بأنه مرآة عاكسة لمشاعر الناس وآلامهم وطموحاتهم. رأى في السامعي صوتًا من أصوات المستضعفين، يعبر عنهم بصدق وموضوعية، ويقدم رؤى مستقبلية نابعة من خبرة وتماس مباشر مع الواقع. وأشار إلى أن ظهور الكتاب اليوم يأتي في ظروف أشد قسوة، مع اتساع رقعة الحروب الداخلية والخارجية التي جعلت البلاد في وضع أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى.
وعند التوقف أمام بعض عناوين المقالات يشعر القارئ بأن كل عنوان هو تلخيص لمرحلة كاملة. فهناك "إلى حيث يريد الله والجمل" الذي يسخر بمرارة من عشوائية القرارات في نظام لا يعرف الدراسة ولا التخطيط. وهناك "لماذا تكيلون بمكيالين؟" الذي يفضح ازدواجية المعايير. ويأتي مقال "الإضراب يليه العصيان المدني" كتحذير مبكر لما جرى بعد حرب 1994 من احتقانات أدت إلى بروز الحراك الجنوبي لاحقًا، فيما يظهر مقال "رغبات السلطة وحتمية فرض إرادة الجماهير" كبيان سياسي يصلح لقراءة واقع اليوم أكثر مما يصلح لمرحلة كتابته الأولى. أما "بلاطجة أم رجال أمن؟" فهو صرخة في وجه انحراف أجهزة الأمن، وماتزال صرخته تلك تعبر عن واقع مُعاش حتى اللحظة.
وما تضمنته الحوارات الصحفية من وضوح وجرأة يتجاوز في حدّته ما ورد في المقالات، الأمر الذي يجعل الفريق سلطان السامعي شاهدًا على العصر بامتياز، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع مواقفه الأخيرة بصفته عضوًا في المجلس السياسي. إن قراءة هذا الكتاب ليست مجرد استعادة لمقالات قديمة، بل هي قراءة في دفتر الوطن، دفتر الألم المزمن الذي عاشه اليمنيون لثلاثة عقود ونيف. ومقالات السامعي ليست مجرد نصوص سياسية، بل هي شهادات كتبت بحبر ممزوج بوجع التجربة، وهموم الناس، وتطلعات شعب كان ومايزال يبحث عن دولة عادلة ومجتمع مدني يليق بتضحياته.
من أراد أن يعرف السامعي عن قرب، وأن يفهم طبيعة الإنسان الذي يقف خلف مواقفه، فلْيقرأ هذا الكتاب؛ ففيه صورة حقيقية لكاتب عاش التاريخ وواجه عواصفه، وبقي شاهدًا على حقبة تستحق أن تُقرأ بعينين مفتوحتين على الماضي والمستقبل معًا.
