صنعاء 19C امطار خفيفة

إلى عهد ياسين

الكماشة المقدسة: الدين والتقاليد

الكماشة المقدسة: الدين والتقاليد

ما الفرق بين الشخص المتديّن المتعصّب الذي يرفع سيف "الحفاظ على الدين" في وجه كل مخالف، وبين غير المتديّن الذي يسلّط سوط "المحافظة على التقاليد والحشمة" على حرية الآخرين واختياراتهم الشخصية؟

في نظري، لا فرق جوهري بينهما؛ فكلاهما يمارس القمع نفسه، وإن اختلفت الذرائع. فالمتعصّب الديني يستند إلى نصّ مقدّس أو إلى فهمه الخاص لهذا النص، بينما المتعصّب للتقاليد يرفع العادات الاجتماعية إلى مرتبة المقدسات، فيجعلها قانونًا أعلى لا يجوز المساس به أو الخروج عنه. وهكذا يجد المجتمع نفسه عالقًا بين فكي كماشة: طرفٌ أول دين نازل من السماء، يُفترض أن يكون رحمة وهداية، لكنه يتحوّل في عقلية متديّن جاهل إلى أداة فرز ومحاكمة وتقسيم، لا يعترف برأي مخالف ولا يقبل اختلافًا. وطرف ثان تقاليد اجتماعية بالية، صُنعت عبر التاريخ بفعل ظروف وثقافات لم تعد موجودة، لكنها رُفعت بمرور الزمن إلى مكانة مقدسة، حتى أصبحت أشبه بدستور اجتماعي صارم لا يُسمح بتجاوزه.
وهنا يبرز السؤال: ماذا بعد؟ أين يذهب الفرد المختلف، صاحب الرأي الآخر، أو من يختار لنفسه طريقاً غير مألوف؟ كيف يمكنه النجاة من كماشة تُحاصر حرّيته باسم الدين من جهة، وباسم التقاليد من جهة أخرى، بينما كلاهما قد تحوّل في نظر المتعصبين إلى خطوط حمراء لا يجوز الاقتراب منها؟
في مجتمعنا اليمني، حين يجد الفرد نفسه محاصراً بين سلطة دينية متشددة وسلطة اجتماعية تقليدية، لا يقف أمام خيار واحد، بل أمام مجموعة خيارات تختلف في تكلفتها وقدرتها على حفظ كرامته وحقه في أن يكون ذاته التي يريد. قد يختار البعض الصمت والامتثال الظاهري لهذه المنظومة في محاولة للنجاة بأقل الخسائر. وقد لجأ كثيرون إلى هذا المسار في العقود الأخيرة، فيتعايشون مع النظام الاجتماعي والديني القائم دون أن يكونوا جزءاً منه. هذا المسار يوفّر حدّاً أدنى من الأمان، لكنه يفرض ثمناً نفسياً هائلاً: كبت مستمر، انفصال بين ما يؤمن به الفرد وما يظهره، شعور بالغربة داخل المجتمع، وإحساس دائم بأن هويته مهددة إذا انكشف ما يخفيه.
وقد يلجأ آخرون إلى الهجرة الداخلية أو الذاتية، بصنع دوائر آمنة داخل المجتمع: صداقات متقاربة في الرؤية، ومساحات فكرية صغيرة، ودوائر تبادل آراء خارج سلطة القمع المجتمعي. هذه الجيوب الصغيرة قد تكون متنفساً، لكنها تظل هشة؛ إنها مقاومة صامتة وليست انتصاراً كاملاً، ومع ذلك فهي خيار واقعي لمن لا يستطيع المغادرة ولا يريد الاستسلام.
عهد ياسين
وهناك من يختار المواجهة المباشرة ودفع الثمن علناً، وهو أصعب الخيارات وأكثرها كلفة، لكنه الأكثر قدرة على تحريك المياه الراكدة وكسر التابوهات. المختلف هنا يقرر أن يقف في وجه سلطة المتدين المتعصّب وسلطة التقاليد الاجتماعية، قائلاً: "هذا أنا، سواء أعجبكم أم لا." وهذا ما فعلته الفنانة هديل مانع، والآن المذيعة في قناة الجمهورية عهد ياسين وغيرها من المذيعات في السابق. هذا الطريق صعب جداً لأنه يؤدي إلى هجوم مجتمعي، وتكفير ديني، وتهميش وتشويه سمعة. لكنه على المدى الطويل غالباً ما ينتج صانعي التغيير، إذ إن كل حركة اجتماعية بدأت بفرد قرر ألا يصمت كما يقال.
ويبقى خيار أخير أمام هذا المختلف وهو الرحيل، بمعناه الواسع وهو الهجرة والمنفى. وفي هذه الحالة يصبح الرحيل فعل نجاة لا هروباً. والرحيل ليس بالضرورة جغرافياً فقط؛ قد يكون هجرة فكرية، أو هجرة اجتماعية بقطع العلاقة بالمحيط الضاغط، أو انتقالاً فعلياً إلى بيئة تحترم حرية الفرد، كما حدث ويحدث مع كثير من اليمنيين الذين انتشروا في بقاع العالم مهاجرين منفيين.
في النهاية، المختلف لا يملك مكانا جاهزا ينتظره؛ فهو من يصنع مكانه بنفسه. وبالتالي فإن السؤال الحقيقي ليس فقط: أين يذهب المختلف؟ بل: لماذا لا يكون المجتمع واسعا بما يكفي ليحتوي جميع أبناءه دون سحق وتهميش وإقصاء البعض؟ وما دام المجتمع يحكم بالنصوص المنتقاة والتقاليد الاجتماعية المقدّسة، سيبقى المختلف غريبًا، وسيظل يبحث عن مساحة يعيش فيها بسلام سواء وجدها في داخله، أو في دائرة صغيرة حوله، أو في مواجهة كبرى، أو في مكان آخر كمنفى نهائي دون عودة.

الكلمات الدلالية