صنعاء 19C امطار خفيفة

رائدات في ظروف غير مواتية 7 - سياسات الرعاية الصحية

تواصل المؤلفة في هذه الحلقة، استعراض فكرتها الخاصة بكون الطبيعة السياسية للرعاية الصحية، ليست مجالاً محايداً أو خيرياً بحتاً. فقد استُخدم الطب تاريخياً كأداة لتعزيز النفوذ الاستعماري وسلطة الدولة. وتؤكد على ضرورة اعتماد "منظور متعدد المستويات" لفهم كيفية اختلاف تفسيرات وأهداف الرعاية الصحية بين المنظمات الدولية والحكومات والمجتمعات المستفيدة.


2.3  سياسات تنمية الرعاية الصحية:

لم يكن من قبيل المصادفة أن تكون مدرسة القابلات المصرية ومشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة مشروعين للرعاية الصحية. بينما اعتبرت الرعاية الصحية لوقت طويل مهمة خيرة وجيدة بحكم التعريف ولا سياسية (لا علاقة لها بالسياسة) بحكم طبيعتها، أصبح من الجلي الآن أن الرعاية الصحية، خاصة الرعاية الصحية الغربية، أداة هامة جداً لتوسيع وتعزيز سلطة الدولة (Van der Geest 1986). يحدد فان در خيست ستة أسباب رئيسية تجعل من الرعاية الصحية الغربية أداة سياسيةً:

رئدات في ظروف غير مواتية صورة الغلاف أولا الرعاية الصحية خدمة يحتاج إليها الجميع وبالتالي تبدو مستبعدة من المصالح السياسية. ثانيا تعمل الرعاية الصحية الغربية بطريقة لا تسيسية لأنها تختزل الرعاية الصحية إلى شأن فردي بدلا من أن تكون شأناً اجتماعيا. ثالثا تعتبر الرعاية الصحية وسيلة فعالة للضبط الاجتماعي وتنظيم سلوك أفراد أي مجموعة وتوصم أولئك الذين لا يتأقلمون مع الأعراف الاجتماعية "بالمرضى" علانية. رابعاً الرعاية الصحية ضرورة أساسية لاستمرار إعادة إنتاج القوى العاملة وعلاقات الإنتاج لذلك فإن تدخل الدولة في تنظيم الرعاية الاجتماعية أمر جوهري. خامسا تزايد بشكل واضح استخدام مؤشرات الرعاية الصحية كمعيار للتنمية.

وأخيرا يعمل استدخال وتعزيز الطب الغربي على إخضاع الناس لمعارف وتقنيات عالية التعقيد بدلا من تشجيعهم على الاعتماد على أنفسهم حيث أن ارتفاع كلفة التكنولوجيا المطلوبة لتوفير الخدمات الطبية الغربية يجعل الدولة واحدة من المنظمات القليلة جداً القادرة على توفيرها وهذا بالطبع في صالح الدولة. بتوفير الرعاية الصحية الغربية تؤسس الدولة صورة إيجابية عن نظامها السياسي بينما تعزز اعتماد الناس على هذه الخدمات سلطة الدولة وتضمن الانسجام الاجتماعي ((Van der Geest 1986: 246. وهكذا نرى أن الرعاية الصحية أداة سياسية مهمة وأن الطريقة التي تنظم بها الرعاية الصحية وثيقة الصلة بالتنظيم الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع.

تتجلى الأهمية السياسية للرعاية الصحية بشكل خاص عندما ننظر إلى الدول الاستعمارية وما بعد الاستعمارية. أولا، كان التوسع الاستعماري الأوروبي في القرن السادس عشر بداية لانتشار العديد من الأمراض والوبائيات في كل العالم (Doyal 1979: 101) ثانيا، تسبب التوسع الاستعماري في تدمير العلاقات الاجتماعية والبيئية الحيّوية ودمرت صحة السكان المحليين (مصدر سابق 107). ثالثاً، تم تشجيع التدخلات لتوفير الرعاية الصحية خدمة للمصالح السياسية والاقتصادية للمستعمرين بالدرجة الأولى (Packard 1997: 94) ودعم وشجع إجراء البحوث على أمراض المناطق المدارية لأن الملاريا والحمى الصفراء شكلتا تهديدا جديا لجهود المستعمرين الأوروبيين وصحتهم.

واعتبرت الصحة دائما هي الخلو من المرض وكانت تدخلات الرعاية الصحية ذات طابع فني يستهدف السيطرة على المرض بالدرجة الأولى وانطلاقا من النموذج الطبي الأوروبي في بدايات القرن العشرين والتي كان ينظر فيها إلى الجسد الإنساني باعتباره آلة تحتاج إلى الصيانة عندما تتعطل، فقد كانت الرعاية الصحية العلاجية مفضلة دائماً على الصحة الوقائية. بينما كان هنالك اهتمام مقدر بالصحة العامة في أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر انفصلت الصحة العامة تدريجياً عن عمل الأطباء وبدأ النموذج الهندسي "يسيطر تدريجيا" على عالم الصحة والطب (Macdonald 1994: 32). إن قوة "النموذج الهندسي" ذو صلة وثيقة بالمفاهيم الغربية للحداثة التي تسيطر فيها المعرفة والتكنولوجيا على الجسد البشرى وهذا يفسر أيضاً جاذبية "النموذج الهندسي" في الدول النامية حيث يعتبر الطب العلاجي المتقدم رمزاً قوياً للحداثة[31].

وُفرت الرعاية الصحية لجزء من السكان المحليين في العديد من المستعمرات لكن هذه الرعاية كانت مقتصرة إلى حد كبير على مناطق الإنتاج والجيش للحفاظ على تدفق العمالة والجنود للجيوش فيما اُستبعد بقية السكان عن الرعاية الصحية الغربية ولم يكن لموضوع الرعاية الصحية الريفية أولوية في الفترة الاستعمارية "لم تكن الرعاية الصحية هدفاً في ذاتها بل كانت من متطلبات التنمية فقط" (مصدر سابق 74). يذهب باكارد (مصدر سابق) إلى أن المصالح السياسية والاقتصادية للمستعمرين هي التي كانت تحدد مقدار وحدود توفير الرعاية الصحية في الدول النامية حتى عقب الحرب العالمية الثانية، أما الآن فقد أصبحت برامج الرعاية الصحية تستهدف جميع السكان لأن الدول الصناعية أصبحت في حاجة لأسواق جديدة لسلعها المصنعة.

أما على الصعيد السياسي فقد اعتبرت السيطرة على أمراض المناطق المدارية سلاحاً في الحرب ضد الشيوعية فقد عمدت الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال على إنشاء برنامج ضخم لمكافحة الملاريا للحصول على مساندة الحكومات والسكان المحليين (مصدر سابق 98). وبالرغم من أن تنمية الرعاية الصحية قد وضعت الآن تحت شعار "لنعمل نحو عالم أفضل" فإن العديد من ملامح المرحلة الاستعمارية لازالت باقية مثل عدم المساواة في توزيع الموارد الصحية والميل إلى اعتبار الرعاية الصحية شرطاً مسبقاً للتنمية الاقتصادية والنظر إلى الصحة باعتبارها الخلو من المرض وتواصل واستمرار الاتجاهات الاستعمارية التي تعتبر السكان جهلاء وفي حاجة للمعرفة الفنية (مصدر سابق 102-111).

لقد اعتبرت الرعاية الصحية حلاً فنياً محضاً بتجاهل تام للديناميات الاجتماعية والاقتصادية ولم ينم وعيً حقيقي بأن الصحة ليست شيئاً فنياً محضاً وأنها مرتبطة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية إلا في أواخر الستينيات من القرن الماضي عقب فشل العديد من تدخلات الرعاية الصحية في البلدان النامية. وفي هذا السياق اكتسبت الرعاية الصحية الأولية أهميتها بتركيزها على الوقاية والمشاركة المجتمعية والمساواة والتكنولوجيا الملائمة والتعاون عبر القطاعي. من الضروري أن تصبح الرعاية الصحية شاملة وليست انتقائية وأن تُكافح الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للأمراض.

كان المؤتمر الدولي للرعاية الصحية الأولية الذي نظمته هيئة الصحة العالمية في الما آتا في (الاتحاد السوفيتي السابق) عام 1987 نتيجة لهذا التحول في التفكير الغربي حول التنمية، حيث اعتبر أن الإرشاد الصحي ورعاية الأمومة والطفولة قبل وبعد الولادة والتطعيم وتوزيع موانع الحمل والأدوية الأساسية، أنشطة أساسية لمكافحة وفيات الرضع والأطفال والأمهات أثناء الحمل والولادة والحد من النمو السكاني. وأصبح تدريب عاملي الرعاية الصحية الأولية والصحة المجتمعية جزءاً رئيسيا من مقاربة الرعاية الصحة الأولية التي تم تطويرها والتوصل إليها في الما آتا واتفق على تدريب أفراد محدودي التعليم من المجتمعات المحلية في فترة قصيرة ليعملوا على توفير خدمات التثقيف الصحي والصحة الوقائية لمجتمعاتهم على أساس تطوعي على أن يقدموا على سبيل المثال الرعاية الصحية الأولية والإرشاد الصحي حول النظافة والتغذية وأن يقدموا خدمات تطعيم الأطفال وتوزيع موانع الحمل.

كانت فكرة تدريب عاملي الصحة المجتمعيين معتمدة إلى حد كبير على تجربة حركة الصحة العامة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية مع صعود دولة الرفاه الاجتماعي في نهاية القرن التاسع عشر حيث عملت نساء الطبقة الوسطى اللواتي كن يسمين بـ "الزائرات الصحيات" على زيارة نساء الطبقة العاملة لتثقيفهن حول الصحة والأمومة الجيدة والتغذية كجزء من مهمة حضارية عامة تستهدف زيادة النمو السكاني (Ramirez-Valles 1997: 72). وفي مرحلة لاحقة تعين على نساء الطبقة العاملة أن يقمن بهذا العمل بأنفسهن لأنهن أقدر على الوصول إلى والتأثير على النساء الفقيرات (مصدر سابق 71). اعتبر تعليم وتثقيف النساء، خاصة النساء الفقيرات حول "الأمومة الجيدة" حلاً أساسياً لمشكلة وفيات الأطفال ووسيلةً لزيادة النمو السكاني وبناء أمة معافاة. "ارتبطت الأمومة بعلاقة مزدوجة بالحكومة والمنظمات التطوعية"(مصدر سابق) [32].

وقعت الغالبية العظمى من حكومات دول العالم على إعلان الما آتا وأدخلت الرعاية الصحية الأولية في سياساتها الصحية. كانت معظم دول العالم راغبة في دعم برامج الرعاية الصحية الأولية لأسباب سياسية حيث أنها كانت تنظر للرعاية الصحية الأولية كوسيلة لتوسيع المرافق الصحية والحد من معدلات الوفاة والمرض ولتعزيز المصداقية السياسية للحكومات وكوسيلة لتخفيض الإنفاق على الرعاية الصحية (van der Geest et al. 1990: 1028). علاوة على ذلك فقد استخدمت الرعاية الصحية لضمان دعم المانحين لأن منظمات التنمية الدولية قد سبقت الجميع في الترويج لنشاطات الرعاية الصحية الأولية في البلدان النامية.

من المهم أن نلاحظ أن مقاربة الرعاية الصحية كما تم تطويرها في ألما آتا بمبادئها الخمسة المتمثلة في المساواة، الوقاية، المشاركة المجتمعية، التكنولوجيا الملائمة، والتعاون عبر القطاعي لم تكن جزءاً من النظام الغربي للرعاية الصحية الأولية (see also Macdonald 1994: 13). من الواضح أن هذه المقاربة قد تم تطويرها خصيصاً للبلدان النامية لكن على أساس المفاهيم الغربية. يرى راميرز– فالس (1997: 75 Ramirez-Valles). أن المنظمات المانحة حثت وضغطت وقادت الحكومات الوطنية لتبني وسائل تميل للاعتماد على المجتمعات المحلية في توفير الخدمات الصحية الأولية للفقراء ومع ذلك فإن القليل جداً من الدول أبدت اهتماماً جدياً بعناصر الرعاية الصحية الأولية ولم تتطابق مقاصد هذه المفاهيم مع الأفكار المحلية إلا نادراً (cf. Stone 1986; Stone 1989; Woost 1997).

بالرغم من أن الرعاية الصحية الأولية كانت تستهدف تعزيز اعتماد السكان المحليين على أنفسهم في الرعاية الصحية فقد تم في حالات عديدة فرضها من قبل الدولة وتنفيذها بواسطة مهنيين يعملون في الحكومة أو في المنظمات المانحة وأصبحت الرعاية الصحية الأولية أداة سياسية هامة لمؤسسات الدولة والمنظمات المانحة على حد سواء ويعود ذلك إلى حد كبير للطابع الغامض لتعبير "الرعاية الصحية الأولية" التي يمكن أن تحتمل شتى المعاني لمختلف الناس في مواقع مختلفة في التراتب السياسي" (van der Geest et al. 1990: 1025). ولهذا يدعو فان در خيست وآخرون (مصدر سابق) إلى استخدام منظور متعدد المستويات في رعاية الصحية الأولية. والمنظور المتعدد المستويات يعني ألا ندرس موضوعات البحث منعزلة بل في علاقتها مع مستويات المجتمع الأخرى وتشير كلمة مستوى تحديداً إلى دوائر التنظيم الاجتماعي العالمية والوطنية والإقليمية والمحلية (مصدر سابق 1026).

يتيح لنا المنظور المتعدد المستويات اكتشاف المعاني المتعددة لظاهرة تحمل نفس الاسم في مستويات مختلفة من التنظيم الاجتماعي (مصدر سابق 1026). يقدم مصطلح الرعاية الصحية الأولية نفسه بشكل خاص في منظور متعدد المستويات حيث أنه أطلق من مؤتمر دولي نظمته هيئة الصحة العالمية وتبنته حكومات وطنية وروجت له منظمات مانحة دولية ومنظمات حكومية وتم تنفيذه على مستويات محلية في البلدان النامية. ويمكن أن يعزى فشل العديد من مشاريع الرعاية الصحية الأولية إلى اختلاف آراء ومصالح الأطراف المتعددة ذات الصلة. وتتطلب دراستي للمرشدات في مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة أيضاً منظوراً متعدد المستويات لأن للمفاهيم المختلفة للتنمية لدى كل من المنظمة الهولندية المانحة ومسئولي الحكومة اليمنية والنساء اللواتي تم تدريبهن وتوظيفهن، على وجه التحديد، دورا بالغ الأهمية في فهم أوضاعهم الغامضة.

ℹ️

عن المؤلفة

الدكتورة مارينا دي ريخت هي باحثة وأنثروبولوجية هولندية متخصصة في قضايا النوع الاجتماعي، والعمل، والهجرة في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، مع تركيز خاص وعميق على اليمن. بدأت علاقتها باليمن في أوائل التسعينيات، حيث عملت لسنوات في مشاريع تنموية بمدينة الحديدة، وهو ما أتاح لها فهماً ميدانياً وشخصياً للسياق الاجتماعي والثقافي.لأغراض التحليل.
*

هوامش ومراجع:

[31] حول العلاقة بين استدخال الطب الحيوي الغربي والسلطة الاستعمارية انظر دراسة Vaughan (1991) لأفريقيا وArnold (1993) لأسيا.

[32] كانت تجربة الأطباء الحفاة الصينية مصدراً أخرا هاماً للتحفيز في مجال الرعاية الصحية الأولية والتي كانت جزءاً من سياسة الرعاية الصحية في الصين في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي.

الكلمات الدلالية