صنعاء 19C امطار خفيفة

الأكاديمية والجهل

تعيش الأكاديمية اليمنية في السنوات الأخيرة واحدة من أكثر مراحلها انحدارًا واضطرابًا، مرحلة لا تشبه ما كان يُفترض أن تكون عليه مؤسسات العلم والمعرفة، ولا تليق بتاريخ الجامعات أو مكانة الباحثين الذين حملوا على عاتقهم مهمة بناء الوعي وإنتاج المعرفة. فقد تحوّل المشهد التعليمي إلى ساحة تتراجع فيها قيمة العلم، ويتقدّم فيها من لا يمتلكون أدواته ولا يعترفون بمنهجه، حتى أصبح الجهلاء يتصدرون المراكز التي كان يجب أن تكون حكرًا على أصحاب الكفاءة والخبرة والبحث الجاد. هذا التحول لم يكن وليد اللحظة، بل هو حصيلة تراكمات طويلة من سوء الإدارة، وضعف التخطيط، وغياب الرؤية، وترك المؤسسات التعليمية فريسة للظروف السياسية والاجتماعية التي مزقت بنيتها، وفتحت الباب أمام المتسلقين، ودفعت بالكثير من الباحثين الحقيقيين إلى الهامش.

لقد كان الباحث اليمني، رغم محدودية الإمكانات، قادرًا على تقديم الكثير من الدراسات والبحوث التي تسهم في فهم المجتمع وتطويره، غير أن السنوات الأخيرة شهدت تضييقًا غير مسبوق على دوره، حتى أصبح وجوده في كثير من الأحيان شكليًا أو ثانويًا. ومع هذا التراجع، ظهرت فئة تمتلك الصوت العالي والقدرة على المناورة أكثر مما تمتلك المعرفة، فملأت الفراغ الذي خلّفه غياب الكفاءات، وسيطرت على مواقع القرار داخل الجامعات ومراكز الأبحاث. هؤلاء لم يدخلوا إلى الأكاديمية من باب العلم، بل دخلوا من بوابة العلاقات والولاءات ومنطق النفوذ الذي لا علاقة له بالبحث العلمي أو القيم الأكاديمية.
لقد أصبح تعيين رؤساء الأقسام وعمداء الكليات ومديري مراكز البحوث يتم وفق معايير لا تمت بصلة للكفاءة. فالمنصب الذي كان يجب أن يُمنح لمن سهر الليالي على بحثه، وأنفق سنوات في جمع البيانات والتحليل والمراجعة، صار يُمنح في كثير من الأحيان لمن يملك القدرة على إرضاء الجهة الأقوى، أو لمن يجيد لغة الولاء وتقديم الخدمات. ومع الوقت، لم يعد غريبًا أن نجد من لا يحمل سجلاً بحثيًا يتحدث باسم العلم، أو من لم يكتب بحثًا واحدًا يحكم على جهود الباحثين الحقيقيين، أو من لا يعرف أسس المنهج العلمي يقود لجانًا أكاديمية حساسة.
لقد ساهمت الظروف السياسية في تعميق الأزمة، إذ تحولت الجامعات إلى ساحات نفوذ تتقاسمها القوى المختلفة، وأصبح البقاء فيها للأكثر قدرة على التكيف مع هذه القوى، لا للأكثر علمًا أو إنتاجًا. ومع تسييس المؤسسات التعليمية، فقدت الأكاديمية استقلالها، وأصبح البحث العلمي عبئًا لا قيمة له ما دام لا يحقق مكاسب مباشرة للسلطة المسيطرة. أما الباحث الذي يتمسك بمعايير العلم فقد يجد نفسه محاصرًا أو مهمشًا أو مدفوعًا للمغادرة. ولذا لم يكن غريبًا أن نشهد نزيفًا حادًا للكفاءات، إذ غادر كثير من الأكاديميين إلى الخارج بحثًا عن بيئة تحترم علمهم، وترعى جهودهم، وتمنحهم مساحة للعمل الحقيقي.
في هذا المناخ، ازدهر الجهل المؤسسي. لم يعد الجهل مجرد غياب للعلم، بل أصبح منظومة قائمة بذاتها، لها أدواتها وخطابها وطريقتها في فرض حضورها. فقد انتشرت الشهادات المزيفة والمضروبة، وتضاعفت الرسائل الجامعية الضعيفة التي تُنجز على عجل أو تُشترى من مكاتب الخدمات. ولأن الرقابة غائبة، فقد أصبحت هذه الأعمال تُمنح نفس الاعتراف الذي تمنحه الجامعات للأبحاث الجادة، بل ربما يحصل أصحابها على ترقيات أسرع من الباحث الحقيقي. هكذا تمدد الجهل من الهامش إلى المركز، وتحول إلى قوة فاعلة قادرة على إعادة تشكيل المشهد الأكاديمي بما يناسبها.
أما المؤسسات الثقافية والعلمية، التي كان من المفترض أن تكون الدرع الواقي للمجتمع، فقد تراجعت بدورها، وغابت عن دورها الحيوي في إنتاج الوعي وتقديم المعرفة. المراكز البحثية شُلّت، والمكتبات العامة تدهورت، والأنشطة الثقافية انحسرت، وعاشت الثقافة نفسها ظرفًا استثنائيًا من الإهمال. ومع غياب هذه المؤسسات، أصبح المجتمع أكثر عرضة لهيمنة الخطاب السطحي والتفكير غير العلمي، مما سمح للجهلاء بالتوسع دون مقاومة حقيقية.
إن نتائج هذا التحول خطيرة وبعيدة المدى. فالجودة التعليمية انهارت، والمناهج لا تُراجع، والطلاب يتخرجون دون امتلاك أدوات التفكير والتحليل. والبحث العلمي تلاشى، وتحول في كثير من جامعات اليمن إلى ممارسة شكلية. والكفاءات التي بقيت داخل البلاد أصبحت تعمل في بيئة طاردة، محاطة بعناصر لا تؤمن بالعلم أصلاً. أما المجتمع، فقد بدأ يشك في قيمة الجامعات، وفي جدية الشهادات، وفي مكانة الأكاديميين أنفسهم، وهذا أخطر ما يمكن أن يحدث لبلد يسعى إلى النهوض.
ورغم كل هذا، يبقى الأمل ممكنًا. فإصلاح الأكاديمية اليمنية ليس أمرًا مستحيلاً، لكنه يحتاج إلى وعي حقيقي بالكارثة التي وصلت إليها، وإلى إرادة جادة لاستعادة روح العلم والبحث. الإصلاح يبدأ بإعادة المعايير الأكاديمية إلى مكانها الطبيعي، وإنشاء جهة مستقلة للجودة، ومحاربة الشهادات المزيفة، ودعم الباحثين الحقيقيين، وإحياء المؤسسات الثقافية والعلمية، وخلق بيئة تحترم النقد وتقدّر المعرفة. فالمعركة ليست فقط بين الأكاديميين والجهلاء، بل هي معركة بين مستقبل يمكن بناؤه بالعلم، وماضٍ يُعاد إنتاجه بالجهل. وإذا اختارت اليمن طريق العلم، فإن الأكاديمية يمكن أن تعود إلى مكانها الطبيعي بوصفها منارة للوعي وقوة قادرة على صياغة الغد.

الكلمات الدلالية