صنعاء 19C امطار خفيفة

الشافعية.. الوسطية الأكثر حذرًا والأقل ثورية

الشافعية.. الوسطية الأكثر حذرًا والأقل ثورية

الشافعية هم أولئك الذين قرروا أن يجعلوا من الفقه مسرحًا، ومن النصوص معزوفة طويلة لا تنتهي عند السطر، بل عند الصبر. عشاق التفاصيل الذين يستطيعون أن يقضوا ليلة كاملة في مناقشة حكم الوضوء بالماء الذي تغيّر لونه، دون أن يشعر أحدهم بالملل.

في القرن الثاني الهجري، بينما كانت العقول تتناطح بين الحديث والقياس، خرج رجل نحيل من غزة يدعى محمد بن إدريس الشافعي، ليجمع بين العقلين المتناطحين في صلح فكري حاول أن يمنح الفقه نظامًا بعد فوضى. كان أشبه بوسيط حكيم بين مدرستين تتقاتلان على تفسير النص. لا هو سلفي يكتفي بالحديث، ولا عقلاني يغامر بالتأويل، بل يقف بينهما كوسيط يحاول إرضاء النص والعقل معًا.
هو أول من جعل من الفقه علمًا يُدرَّس، لا غريزة تُتّبع. الرجل الذي حوّل الجدال إلى عبادة، والبحث في معنى "النية" إلى طقس علمي أكثر دقة من الصلاة نفسها.. لم يكن يبحث عن الله في الغيب، بل عن النظام في فهم كلامه. عن طريقة تجعل النص منطقيًا كأنه معادلة رياضية، لا قصيدة غامضة من أيام الوحي.
ولدت الشافعية من رحم الحذر، مزيج من الأدب المفرط والخوف الجميل من الخطأ. الشافعي أول من جعل عبارة "والله أعلم" نهاية لكل جملة، لا تواضعًا، بل تأمينًا ضد الزلل. أدخل الفقه في مرحلة "النسخة الآمنة"، لا يقول شيئًا دون نسخة احتياطية شرعية، لا يصرخ كأحمد بن حنبل، ولا يغامر كأبي حنيفة، بل يقف بينهما متكئًا على عبارته الذهبية "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
في عالم المذاهب الصاخبة، الشافعية هم المدرسة التي تفضّل الاتزان على الضجيج، والجدل المهذب على الثورة الفقهية. الشافعي نفسه لم يكن فقيهًا فقط، بل مهندس علاقات عامة بين النص والعقل. لم يقل إن العقل فوق النقل، ولم يقل العكس. أما أتباعه فقد جعلوا من التوسط عادة. إذا سألتهم عن رأيهم في قضية أجابوك بوجه مشرق: "فيه قولان"، والأجمل أن القولين متناقضان، لكن كليهما "راجح". هكذا صارت الحقيقة عندهم عجينًا قابلًا للتشكيل على حسب درجة حرارة الجدل.
في المذهب الشافعي كل شيء له احتمال، حتى الخطأ له أدب. يبحثون عن النية في كل حركة، كمن يبحث عن الواي فاي في صحراء. يزنون الماء بالقطرات، والنية بالهواجس، ويقفون بين النص والعقل كموظفي استقبال مهذبين. ولأنهم مؤدبون أكثر مما ينبغي، فقد فقدوا شهية الثورة. فقهاء يرتدون المنطق كربطة عنق لا كدرع. مذهب أنيق لدرجة أنه فقد شيئًا من الحرارة.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الشافعي أنقذ الدين من فوضى الجدال، وحوّل الخلاف إلى فن، والنقاش إلى أدب، والفقه إلى معمار هندسي لا ينهار عند أول سؤال. لقد أراد أن يُنقذ النص من الغوغاء فأنقذه. لكنه لم يدر أن بعض أتباعه سيحوّلون ذلك التوازن النبيل إلى عادة مريحة من الوقوف الدائم في المنتصف حتى بين النار والماء.

الكلمات الدلالية