غزة من حرب الإبادة إلى الإبادة الصامتة
منذ الـ10 من أكتوبر 2023، شَنَّتْ إسرائيل وأمريكا، مَسنودتَين بأوروبا الاستعمارية، حرب إبادة على غزة أربت على كُلِّ جرائم حروب الإبادة، فَدمَّرَتْ أكثر من 90% من أحياء ومنازل قِطَاع غزة، وسبقها ورافقها حصار منع الغذاء والماء والدواء.
قُتِلَ أكثر من سبعين ألفًا، وهناك الآلاف تحت الأنقاض، وَدَمَّرَ القصف الجوي والبرِّي كُلَّ معالم الحياة ومظاهر التمدن في المدينة، أمَّا الجرحى فَأكثر من 170 ألفًا.
حَربُ الإبادة الجماعية تعني حَسبَ «المادة الثانية» مِنْ جرائم الحرب، جَرائمَ مرتكبة ضد الإنسانية، بما في ذلك الإبادة الجماعية من الشرعية الدولية.
ارتُكِبتْ خلال عامين كُلُّ أفعال الإبادة، وكانت أمريكا -منذ البداية- شَريكًا فاعلًا في الحرب، ولكنها في رئاسة ترامب الثانية بَرزَ ترامب كقائد فِعْلي للحرب إلى جانب نتنياهو.
حَدَّدتِ المادة معنى الإبادة بقتل أعضاء من الجماعة، وإلحاق أذى جسدي أو رُوحِي خطير بأعضاء من الجماعة.
إخضاع الجماعة عَمْدًا لظروف معيشية يُرادُ بها تَدميرُهَا بالأذى كُليًّا أو جزئيًّا، وفرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، ونقل الأطفال من الجماعة عُنوةً إلى جماعة أخرى.
أوردت المادة الواردة في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (96)، في 11 ديسمبر 1946؛ ليتضح أنَّ ما جرى في غزة يفوق ويتجاوز جرائم حرب الإبادة المنصوص عليها؛ فَمَا جَرى في غزة هو إعدام لكل معاني الإنسانية والحياة.
مَا عجزت عنه حربُ الإبادة، وَفَشِلَ فيه نتنياهو وترامب، والأنظمة الأوروبية الاستعمارية، هو إرغام الغزيين على الفِرار من جحيم ترامب ونتنياهو. فالتطهير العرقي، وتهجير الغزيين، ومواطني الضفة الغربية هَدفٌ رَائسٌ للحرب، وفرض للاستيطان.
فشل نتنياهو في فرض الاستسلام على المقاومة، كما فشل في استعادة الأسرى وجثامين القتلى عبر الإبادة الجماعية؛ وهو ما يدركه المواطن الإسرائيلي أكثر من حُكَّامنَا العرب وأبواق دعايتهم.
انغراس الغزيين في تراب أرضهم، والمقاومة بالعناد والصبر والتضحيات، ويقظة الرأي العام الدولي، والاحتجاجات الواسعة داخل إسرائيل وأمريكا وأوروبا، واستشعار الاستعمارين: الأمريكي، والأوروبي بمآلات حرب الإبادة؛ وربما توسل بعض حكام العرب الخائفين، كُلُّ ذلك أجبر ترامب ونتنياهو على الاستعانة بمجرم الحرب على العراق توني بلير؛ لتقديم الخطة الجهنمية، وربما وَجَدَ فيها الحكام العرب الخائفون وحتى الوسطاء، المخرج من الكارثة.
القرار الأممي الذي صادق عليه مجلس الأمن، وَقَبلَ بِهِ الحُكَّام العرب، وامتنعت روسيا والصين عن التصويت، هو أساس الخطة العشرينية التي تَقدَّمَ بها ترامب مع تعديلات لنتنياهو، وتدخل محدود وخجول للطَّرَف العربي.
لا ينسى الفلسطينيون أنَّ مصدر قرار التقسيم الأمم المتحدة، وأنَّ إسرائيل قامت بقرار أممي، وأنَّ مئات القرارات التي لصالح الشعب الفلسطيني لم تُنفَّذ.
الخُطَّة اللغم هي استمرار للحرب بأساليب «سِلميَّة»، وَالتلويح بالعصا، والوعد بمسار جديد لتقرير حق المصير للدولة الفلسطينية، ملتبسٌ وَمُخَادِع؛ فهو لا يختلف كثيرًا عَمَّا اتفق عليه في أوسلو، كما أنَّ ربطه بالتفاوض مع إسرائيل، وبإصلاح السلطة الفلسطينية، هو ما يجعل الوصول إليهِ مُستحِيلًا؛ وهو مسار بلا نهاية؛ شأن قرار التقسيم.
القرار الأممي الآتي مِن الخطة يعني تسليم الجزء الأكبر من غزة لترامب، ملك الريفيرا تحت غطاء دولي، ووصاية أممية شَكليّة، ومشاركة بعض الزبائن العرب. والأخطر استمرار الحماية الأمنية الإسرائيلية، وتجزئة المُجَزّأ، وفصل غَزَّة عن الضفة، وإقامة العُمْرَان في منطقة الاحتلال الإسرائيلي؛ لإرغام بقية مناطق غزة التابعة للمقاومة، وإجبار السكان؛ إمَّا للالتحاق بمنطقة السيطرة الأمريكية، أو الهجرة خارج وطنهم.
تَملُّك ترامب لغزة، وَحِرص اليسار واليمين الصهيوني على طمس اسم فلسطين، وإبادة شعبها أو تهجيره، هو الهدف الأرأس منذ بَازِل، وغرض كُلِّ الحروب منذ مطلع القرن الماضي. والخطة القرار تعمل على إنجاز ما عجزت عن تحقيقه حرب الإبادة، وكل الحروب.
الفصائل الفلسطينية المجتمعة في القاهرة رفضت القرار (2083)، واعتبرته وصاية دولية على غزة لترتيبات ميدانية خارج الإرادة الوطنية، وترى في القوة الدولية بالضفة المطروحة شَكلًا من أشكال الوصاية، وَيَطال حقَّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، ومشاركة دولية في حرب الإبادة الإسرائيلية، وأنَّ القرار يتجاهل ما تتعرض له الضفة الغربية بما فيها القدس من إرهاب المستوطنين، ولم يعالج جذور المشكلة، ولا عالج غياب السلام الحقيقي والعادل، ولا نظام الأبارتيد، ولا حق العودة.
ويربط القرار انسحاب الاحتلال، ووقف الحرب بشروط الاحتلال، ويقيد الإعمار والمساعدات بالإرادة الإسرائيلية، وَيُعمِّق الفصل بين القطاع والضفة، ويستهدف الأونروا ودورها التاريخي الذي يُمثِّل آخر التعابير المتبقية من الالتزام الدولي تجاه القضية الفلسطينية.
والنقد، وإن كان مُوجَّهًا ضد القرار الأممي الآتي من خطة ترامب ونتنياهو وبلير؛ فإنَّ كارثة حرب الإبادة وطوفان الأقصى تمتد جذورها إلى الانقسامات القاتلة الفلسطينية -الفلسطينية، والصراع الفتحاوي -الحمساوي، وبين السلطة وحماس، وخصوصًا بعد انتخاب محمود رضا عباس ميرزا (أبو مازن)؛ القناة الأمنية مع إسحاق رابين، كخليفة لأبي عمار في 9/1/2005.
يؤكد المناضل اليساري الديمقراطي، عضو المجلس المركزي للاتحاد العام للصحفيين والأدباء الفلسطينيين، عبدالقادر ياسين، في كتابه «فتح وحماس: صراع الدِّيَكة، أم تصادم مناهج؟»: «اللافت أنَّ كُلَّ الاشتباكات التي اندلعت بين فتح وحماس كان الطرف إياه المنتسب لفتح هو البادئ، دون أن يمنع هذا من رَفْعِ عقيرته بالتنديد بمقاتلي حماس، ومحاولة إلصاق كُلِّ تهم القتل بهم» (ص47).
والكاتب الماركسي يدرس نشأة حماس، ودفع إسرائيل للمواجهة مع فتح والسلطة الفلسطينية. وكانت بداية الكارثة «اتفاقيات مدريد وأوسلو» التي كرس ضدها المفكر إدوارد سعيد، عضو المجلس الوطني حينها، كتابيه: «غزة وأريحا سلام أمريكي»؛ وهو الكتاب الذي قَدَّمَه الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل.
أمَّا الكتاب الثاني فَـ«أوسلو 2: سلام بلا أرض». والمأساة أنَّ الانقسامات والانشقاقات رافقت التكوينات والاتجاهات الفلسطينية منذ النشأة، وغدا الرهان على وحدة الصف خَائبًا. فأبو مازن -رغم ما لحق ويلحق بشعبه من دمار وإبادة- لايزال يراهن على التنسيق الأمني؛ وَالحَلّ الأمريكي بِالنِّسبَةِ له أهم من التصالح مع شعبه والفصائل الوطنية.
صبر وتضحيات وعناد الغزيين أفشلَ وَيُفشلُ نهج ومخطط التطهير العرقي، والتهجير عبر حرب الإبادة غير المسبوقة، ولا نظير لها في التاريخ الحديث والمعاصر.
فهل يتمكن الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع من إفشال خطة ترامب وتنياهو، وبلير؛ وقرارهم الأممي، والمخاطر المحدقة كبيرة، وخذلان السلطة الفلسطينية فاجع، والتواطؤ العربي الرسمي لا يقف عند حد؟
إسرائيل آخر استعمار استيطاني قائم على الفصل العنصري، والتطهير العرقي، والتهجير؛ وهي أداة للصهيونية العالمية، والإمبريالية، الأمريكية، وتخوض حروب أوروبا القذرة، كما قال المستشار الألماني فريدريش ميرتس.