بين مدينة تتوسع وبلد ينهار..
خط الترام F ــ النداء
استيقظت مدينة ستراسبورغ، صباح أمس، على موعد حضري ينتظره الآلاف من سكان الأحياء الغربية، مع تدشين التوسعة الجديدة لخط الترام F.
ومنذ الساعات الأولى للصباح، بدأت الملامح الأولى للاحتفال تتشكل حول المحطات الجديدة، في مشهد يعكس تلك العلاقة المميزة بين سكان المدينة ومشاريعها العامة، حيث يتحول التخطيط الطويل إلى واقع ملموس يعيد رسم حركة الحياة اليومية.
منذ ساعات الصباح الأولى توافد السكان إلى المحطات الجديدة، ليس بدافع الدهشة، بل احتفاء باستمرارية نموذج حضري مبني على التخطيط والإنجاز، حيث تتحول الخيارات الانتخابية إلى بنية تحتية تُعيد تشكيل حركة الحياة في المدينة.
بدأ تنفيذ المشروع في صيف 2023، واستمر لأكثر من عامين من الأعمال الهندسية وتحويل شبكات الخدمات الأساسية.
وبحسب موقع TopMusic، بلغت الميزانية الإجمالية للمشروع نحو 122 مليون يورو، بينها 79 مليونًا خُصّصت لأعمال الأشغال.
وفيما أكدت صحيفة Rue89 Strasbourg نفس الرقم، أشارت منصة Strasinfo إلى أن الدولة الفرنسية دعمت المشروع بمبلغ إضافي يقدر بـ15.5 مليون يورو ضمن برامج تمويل النقل النظيف.
ويمتد الخط الجديد على طول 4 كيلومترات، مضيفًا ثماني محطات جديدة تربط أحياء ستراسبورغ الغربية ببلديتي Eckbolsheim وWolfisheim.
وجاءت الأسماء الرسمية للمحطات كالآتي:
داخل ستراسبورغ:
Gruber
Hohberg
Octroi
Poteries
وفي بلديتي Eckbolsheim وWolfisheim:
Eckelse
Bois Romain
Parc d’activités Eckbolsheim – Zénith
Wolfisheim – Henri Rendu
هذه المحطات الجديدة ستخدم مباشرة أكثر من 20،300 ساكن يعيشون في محيط الخط، كما تسهّل الوصول إلى ما يقارب 7،100 وظيفة موزعة بين المناطق السكنية والتجارية والصناعية.
وخلال فترة التنفيذ، خلق المشروع ما معدله 150 فرصة عمل يوميًا، إلى جانب 30 ألف ساعة إدماج مهني استفاد منها شباب من المنطقة، بينما شاركت أكثر من 50 شركة محلية في إنجاز مختلف مراحله.

وترافق المشروع مع تحسينات حضرية واسعة شملت إنشاء 6 كيلومترات من مسارات الدراجات، وزراعة نحو 800 شجرة جديدة، وتوسعة الأرصفة وإعادة تنظيم حركة المرور داخل الأحياء، وهو ما يجعله مشروعًا حضريًا متكاملًا لا يقتصر على النقل فقط، بل يشمل إعادة تصميم المجال العام وتعزيز جودته.
وشهد الافتتاح حضور جان بارسغيان، عمدة ستراسبورغ، وبيا إمبس، رئيسة الهيئة الحضرية، في دلالة واضحة على أهمية المشروع ضمن الرؤية السياسية للمدينة.
فهذه التوسعة ليست مجرد إضافة تقنية لشبكة النقل وحسب، بل ثمرة سنوات من التخطيط ومفاوضات التمويل والعمل المؤسسي.
وتؤكد السلطات المحلية أن المشروع يعكس فلسفة تقوم على تعزيز النقل العمومي وربط الأحياء طرفيًا بمركز المدينة، بما يسهّل حياة السكان ويقلّل الاعتماد على السيارات الخاصة.
ويرى مراقبون أن التوسعة الجديدة تمثل نموذجا للدولة الحديثة في تعاملها مع الخدمات العامة، فهي تجمع بين التخطيط الطويل المدى، والاستثمار في البنية التحتية، وتنشيط الاقتصاد المحلي، وتطوير المحيط البيئي.
وأثناء تواجدي هناك، لفتتني تلك الفرحة الهادئة المنعكسة على وجوه الناس. كانت فرحة تشبه الاطمئنان إلى مدينة تتقدم خطوة أخرى في مسار طويل من إعادة التهيئة والتطوير.
هنا لا ينتظر المواطن مشروعًا كبيرًا ليحتفل به، لأنه يعيش داخل مدينة اعتادت أن تبني وتحسن وتعيد تنظيم فضاءاتها الحضرية عامًا بعد عام.
وفي الخلفية، يصعب تجاهل المقارنة. ففي الوقت الذي تطلق فيه ستراسبورغ سكة جديدة للترام، يعيش اليمن منذ عام 2015 حربًا دمرت كل مقدرات الدولة، وأهلكت الحرث والنسل.
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 18.2 مليون شخص في اليمن بحاجة إلى مساعدات إنسانية، وأن ما يزيد عن 80٪ من السكان يعيشون تحت خط الفقر، فيما انخفض دخل الفرد الحقيقي بأكثر من 58٪ منذ بدء الحرب.
هذه الأرقام لا تعبر فقط عن أزمة اقتصادية، بل عن انهيار شامل في منظومة الخدمات والدولة والمجتمع.
وهكذا بينما يناقش الناس هنا جودة الخدمة وتطوير البنية التحتية، يبحث كثير من اليمنيين عن الحد الأدنى من مقومات الحياة مثل الكهرباء، والماء، والخبز والدواء، والمستشفى، والأمن، وحق بسيط في البقاء، وجزء بسيط من حياة كريمة.

وبينما تترجم الانتخابات هنا إلى مشاريع ملموسة، يقف اليمن في مواجهة فراغ سياسي ومؤسسي جعل الخدمات الأساسية حلما بعيدا أبعد من عين الشمس.
وعند انطلاق الترام في رحلته الأولى عبر المسار الجديد، شعرت أن هذا الخط الجديد ليس مجرد وسيلة نقل، بل رمز لمدن تعرف كيف تبني مستقبلها.
وفي المقابل، بدا لي أن اليمن يقف عند محطة أخرى، يبحث فيها عن فرصة لبداية جديدة تعيد للدولة دورها وللمواطن مكانه وللحياة معناها.
وتظل مدينة ستراسبورغ، بما تمثله من موقع جغرافي فريد على ضفاف نهر الراين وعند نقطة التماس بين فرنسا وألمانيا، واحدة من المدن القليلة في أوروبا التي تجمع بين الهوية الوطنية الفرنسية والانفتاح الثقافي الألماني في نسيج عمراني واحد.
هذا الموقع جعلها مركزًا سياسيًا ذا أهمية كبرى، حيث تحتضن مقار مؤسسات أوربية رئيسية مثل البرلمان الأوربي والمجلس الأوروبي ومحكمة حقوق الإنسان.
وبالإضافة إلى دورها السياسي، تعد ستراسبورغ مدينة جامعية حيوية وقطبًا اقتصاديًا مهمًا في شرق فرنسا، تشتهر بشبكة نقل متقدمة ومسارات حضرية مخططة بدقة.
ولهذا تبدو المشاريع الكبرى مثل توسعة خط الترام جزءًا طبيعيًا من مدينة تتحرك بثقة نحو المستقبل، وتستثمر موقعها وتاريخها لتظل جسرًا نابضًا بين ثقافتين وفضاء عامًا يوازن بين الحداثة والهوية الأوروبية.