حين يسجن الإنسان داخل جواز سفره
لم يعد الوطن اليوم أرضًا نزرعها أو سماءً نحلم تحتها. صار في جيبنا، بين صفحات جوازٍ يقرر مَن نحن، وإلى أي مدى يمكن لأقدامنا أن تمشي في هذا العالم.
في زمنٍ اختُزلت فيه قيمة الشعوب في لون غلاف جوازها، لم يعد التاريخ وحده كافيًا ليحفظ كرامة أمة، ولا الجغرافيا قادرة على أن تمنح مواطنيها مكانًا على الخريطة الإنسانية.
بلدانٌ وُلدت قبل نصف قرن، بلا تاريخ ولا آثار ولا ذاكرة، صارت تُعامل باعتبارها دولًا من الدرجة الممتازة لأن في باطنها النفط أو في نظامها المالي انضباط السوق العالمية.
وفي المقابل، أممٌ تمتد جذورها إلى خمسة آلاف سنة من الحضارة، كاليمن، تُعامل اليوم كما لو أنها لا تزال في قائمة الانتظار أمام بوابة العالم.
جواز السفر أصبح وثيقة تحدد مصير الإنسان أكثر مما تحدده مواهبه أو علمه أو قيمته الفعلية.
أن تكون حاملًا لجوازٍ قوي يعني أنك تستطيع أن تحلم بحرية، أن تسافر متى شئت، أن تجرّب الحياة في أكثر من شكل.
وأن تحمل جوازًا ضعيفًا يعني أنك محاصر حتى داخل وطنك، وأنك في كل مرة تفكر بالسفر، تشعر كأنك تطلب المستحيل.
لي أصدقاء غادروا منذ سنوات إلى الولايات المتحدة وكندا، وحين حصلوا على جنسية تلك البلاد، تحدّثوا عن شعور جديد لم يعرفوه من قبل: شعور بأن العالم كلّه أصبح متاحًا.
كانوا يخططون للسفر كما يخطط الناس العاديون لعطلة نهاية الأسبوع. لم يعودوا ينتظرون إذنًا أو تأشيرة أو استدعاءً من السفارة.
بلدانهم الجديدة منحتهم حقّ الحركة، وحقّ الحلم، وحقّ أن يكونوا بشرًا طبيعيين في عالمٍ يضع أمام الآخرين أسوارًا من التأشيرات والقيود.
أما نحن، أبناء الجوازات المثقلة بالماضي والسياسة والفقر، فنتنقل داخل حدودنا كما لو أننا نتحرك داخل قفص.
عشر سنوات لم أخرج من مساحة أربعة كيلومترات مربعة.
عشر سنوات وأنا أعيش تحت سقفٍ واحد لا أستطيع تجاوزه لأن جوازي لم يعد مفتاحًا بل قيدًا.
وحين قررت تجديده، وجدت أن ثمنه نفسه أقرب إلى عقوبة. وعندما أحصل عليه أخيرًا، لا يمكنه أن يخرجني إلا إلى مسافة السفارة أو العودة إلى بقعة محدودة من وطني الممزق.
أية قيمة للتاريخ إذا كان الإنسان فيه بلا حق في الحركة؟
أي معنى للهوية إذا كانت لا تحمي صاحبها من الذلّ على أبواب المطارات؟
ما فائدة أن تكون ابن حضارة عمرها آلاف السنين، إذا كنت اليوم عاجزًا عن أن تعبر البحر لتلتحق بعملٍ أو بدراسة أو بعلاج؟
المشكلة ليست في الجواز نفسه، بل في العالم الذي جعل من الجواز مقياسًا للإنسان.
فقد تحوّل النظام الدولي إلى طبقية جديدة لا تقوم على المال أو اللون، بل على "رمز الدولة" في صفحة التعريف.
الحرية لم تعد حقًا، بل امتيازًا يمنح لمن يعيش في بلد غني ومستقر، ويُسحب ممن يعيش في أرضٍ مضطربة أو فقيرة أو منسية.
حين يصبح جواز السفر مرآة الوطن، علينا أن نعترف أن الخلل ليس في الورق، بل في النظام الذي صاغه.
ذلك النظام الذي يُكافئ الثروة بالعالمية ويعاقب الفقر بالعزلة.
ولذلك صارت بعض الدول تبني صورتها الخارجية على مدى قوة جوازها، لا على مدى عدالة أنظمتها أو مستوى تعليمها أو جودة حياتها.
في النهاية، نحن أمام معادلة قاسية:
من يملك جوازًا قويًا يملك مستقبلًا مفتوحًا، ومن لا يملكه يعيش في حصارٍ غير مرئي، حتى لو كان في قلب وطنه.
هذه ليست مسألة بيروقراطية، بل مسألة كرامة وإنسانية.
فالجواز في جوهره يجب أن يكون وعدًا بالحرية، لا وثيقةً للرقابة.
يجب أن يكون جسرًا نحو العالم، لا جدارًا يعزل صاحبه عن الحياة.
حتى يأتي يوم تصبح فيه قيمة الوطن بما يقدمه لمواطنيه لا بما يطبع على غلاف جوازهم، سيبقى الملايين مثلي ينظرون إلى العالم من خلف ختمٍ صغير، ويشعرون أن الأرض الواسعة ضاقت بهم لأنهم وُلدوا في المكان الخطأ، بالجواز الخطأ، في زمنٍ يقيس الإنسان لا بما هو، بل بما يحمله في يده من أوراق...