صنعاء 19C امطار خفيفة

الدلاله

الدلاله
الدلاله

الإهداء:

إلى أمهاتٍ تعبن...

كان الوقت قبل العصر، والسماء غائمة تنذر بالمطر، والبيت يضج بحركتنا أنا وأخي، حين سمعنا طرقًا خفيفًا على الباب.

فتحت الباب، فوجدت امرأة تقف هناك، وجهها يتصبب عرقًا، ملامحها متعبة، وفي عينيها حزنٌ عميق. كانت تحمل كيسًا متوسط الحجم، عرفت لاحقًا ما بداخله.
دخلت، وكانت أمي في غرفتها. ناديتها: "هناك امرأة في انتظارك." خرجت أمي بابتسامة واسعة، كأنها تعرفها منذ زمن، ورحبت بها بحرارة.
دخلتا غرفة الجلوس، جلست المرأة، وفتحت كيسها. أدهشني تنوع ما فيه: أقمشة، عطور، أدوات صغيرة، أشياء للبنات. كنت أراقب من بعيد، ويدي تبحث عن قملة في رأسي. أمي تصيح بي: "روح اشتري كبريت بدل وقفتك هذه."
صوت المذيع ينبعث من خلفي معلنًا: "مقتل أنديرا غاندي..."
كانت تعرض بضاعتها بصمت، وأمي تختار منها هذا وذاك، وبعض الأشياء التي ليست بحاجتها، إكرامًا لها. وتصرّ على أن تبقى، قائلة لها: "صديقاتي سيأتين بعد قليل، وسيشترين الباقي."
ثم، بنبرة خجولة، قالت المرأة: "أريد أن أدخل معكن هكبة." (جمعية)
نظرت إليها أمي، وابتسمت تلك الابتسامة التي تُشبه الموافقة قبل أن تُقال، وقالت: "ابشري، بس على شرط... تستلميها أول واحدة."
نظرت لها وابتسامة عريضة على وجهها.
في اليوم التالي، سألتُ أمي عنها. قالت بصوت فيه نبرة حزن: "هذه امرأة مكافحة، زوجها تركهم وسافر. لا يعرفون أين هو، هل مات في الجبهة؟ هل هاجر؟ لا أحد يعلم. تشقى من بيت إلى بيت، تبيع ما تستطيع، لتطعم أولادها وتدرسهم. يسكنون في الجهة المقابلة، قرب ذاك البيت الذي تظل شرفته مفتوحة طوال العام."
فكرتُ بحالها. ماذا تقول لنفسها حين يثقل التعب على كتفيها؟ ربما تهمس في داخلها، لا لتشتكي، بل لتصبر نفسها: "بمقدوري أن أتحمل. بمقدوري أن أكون قوية. سأرتاح يومًا ما. لكن ليس الآن."
ثم خطر لي أنها ليست من أولئك الأمهات اللواتي يُذكرن أولادهن بغياب الأب في كل حين، كأنها اختارت أن تكون الجدار وحدها، دون أن تشتكي ممن تركها.
وفكرت بهم. عندما تعود أمهم إلى البيت، متعبة من صعود السلالم وطرق الأبواب، ماذا يقولون؟ ربما يقول أحدهم لأخيه بصوت خافت: "هيا، لنُجتهد. ليس لأجلنا، بل لأجل أمنا."
أو ربما يقول الآخر وهو يطوي دفتره: "لنقتصد في مصروفنا، فكل قرش نأخذه هو من عرق جبينها."
أو ربما لا يقولون شيئًا. ربما ينظرون إليها وهي تضع الكيس جانبًا، وتجلس بصمت، فيفهمون كل شيء دون كلمات.
> في بعض اللحظات، يكون الصمت أبلغ من أي حديث.
في يوم آخر، كنت ألعب في الحارة بالقرب من بقالة عمي صالح -رحمه الله- والغبار يتراقص حول قدميَّ كأنه يشاركني المرح.
بالقرب منا، أصوات بنات صغيرات يلعبن وينشدن بمرح: "يا بقرة صبّي لبن، صبّي لبن... عبد الله سافر عدن... بنت أخته جابت ولد، سمّته عبد الصمد... عبد الصمد يشتي حليب، والحليب من البقر، والبقر تشتي حشيش، والحشيش من الجبل، والجبل يشتي..."
وبين ضحكاتنا وصياحنا وأصوتهن الذي كان يبث الحياة في المكان، رأيتها. كانت تمشي بخطى متعبة، تحمل كيسها المعتاد، ذلك الكيس الذي صار جزءًا منها. دخلت أحد البيوت، كما تفعل كل يوم، دون أن تطرق كثيرًا أو تنتظر طويلًا. كأنها تعرف أبواب الحارة أكثر من أهلها.
وقفتُ أراقبها من بعيد، لا أدري لماذا. حين خرجت، التفتت نحوي، توشك أن تقول شيئًا ثم لزمت الصمت، فقط ابتسمت. فابتسمتُ، ورفعتُ يدي، ولوّحت لها بتحية خجولة، لا تحمل شيئًا سوى الاحترام. ثم مضت، كما تمضي دائمًا، تاركة خلفها أثرًا لا يُرى، لكنه يُحَس.
ذلك الأثر ظل يسكنني، يكبر معي، ويعود إليّ كلما مرّ طيفها في الذاكرة. بعض الآثار تُطبع في الذاكرة كما تُطبع النقوش على الحجر.
ومع مرور السنوات، نزحتُ بسبب الحرب. تغيرت المدن، وتبدلت الوجوه، لكن الحارة بقيت في الذاكرة كما هي. كنت أعود إليها بين الحين والآخر، زيارة عابرة، أبحث فيها عن شيء لا أعرفه.
في إحدى تلك الزيارات، وبينما كنت أسير في الزقاق القديم، لمحتها. امرأة عجوز، تسير ببطء، ظهرها منحني، ويداها خاليتان. لا كيس، لا بضاعة.
للحظة، لم أتعرف عليها. ثم، كأن شيئًا في ملامحها ناداني من الماضي. اقتربت منها، سلمت عليها بحرارة. نظرت إليّ طويلًا، كأنها تحاول أن تعيد ترتيب ذاكرتها، كأن عقارب الساعة تدور إلى الوراء.
قلت لها بهدوء: "أنا ابن فلانة."
عندها، أشرقت ابتسامة كبيرة على وجهها، وسألتني عن أمي. طمأنتها. سألتها عن أولادها، فقالت بتواضع ممزوج بسعادة: "واحد مهندس، والآخر طبيب."
ضحكتُ، والدمعة تحاصر عينيَّ، وقلت ممازحًا: "وأين الكيس؟"
ضحكت، وقالت: "حلفوا عليّ ما أشتغل. وإلا كنت أشتي أشتغل."
قلت لها ممازحًا: "قدك عجوز... راحت عليك."
ضحكنا معًا، ضحكةً فيها شيء من الذكرى، وشيء من الراحة بعد عناء طويل.
ودعتها، ثم تركتها تمضي، تمشي ببطء، بلا كيس، بلا عرق، بلا تعب. تمشي كأنها تودّع الشوارع التي حفظت خطواتها، وتسلّم على الأبواب التي طرقتها مرات عديدة.
وأنا وقفت هناك، أنظر إليها باعتزاز، وأرى فيها أمي، وماكينتها التي كانت تدور لأجلنا.
رأيت فيها كل امرأة صمدت، كل يدٍ حانية تعبت من العمل، وكل قلبٍ ظلّ دافئًا رغم الحرب والجوع والخذلان.

الكلمات الدلالية