صنعاء 19C امطار خفيفة

الملالاة والمهاجل نموذجاً

تحديات استدامة الفنون التراثية في ريف الحجرية في ظل هيمنة الخطاب السياسي

تحديات استدامة الفنون التراثية في ريف الحجرية في ظل هيمنة الخطاب السياسي
الفنون التراثية في ريف الحجرية ـ منصات

يتناول هذا المقال التحديات الوجودية التي تواجه الفنون التراثية غير المادية، ولا سيما فنّي الملالاة والمهاجل في ريف الحجرية (جنوب تعز)، في ظل هيمنة الخطاب السياسي وغياب السياسات الثقافية الداعمة. يستند المقال إلى توثيق ميداني مباشر قمت به خلال اشتغالي على كتابي الثالث ( أصوات من الماضي) إضافةً إلى الجهود الذاتية والمستمرة في حقل التراث اللامادي ، ويخلص إلى أن اندثار هذه الفنون لا يرتبط بتقادمها الزمني بقدر ما يرتبط بإزاحتها من دائرة الأولويات العامة، وتراجع دور المؤسسات الثقافية في حمايتها. ويحذّر من تحوّل هذه الفنون من ممارسة اجتماعية حيّة إلى قشرة شكلية فاقدة لوظيفتها، ويقترح مجموعة توصيات عملية لإعادة الاعتبار لها بوصفها جزءًا من الذاكرة الجمعية ورأس المال الاجتماعي للمجتمع المحلي.

1. صوت الأرض وصدى الإنسان: الفنون التراثية من جذورها الوظيفية إلى ذاكرة الهوية في الحجرية

تُعرّف الفنون التراثية في سياقها الأنثروبولوجي والمهني بأنها "الفعل الإبداعي الأول للوجود الإنساني"؛ فهي لم تنشأ كترفٍ ذهني أو استعراض جمالي منفصل، بل ولدت كاستجابة حتمية فرضتها طبيعة الصراع بين الإنسان وبيئته. إنها فنون "وظيفية" بامتياز، نشأت من خلال تحويل الإيقاعات الطبيعية للحياة – كوقع الخطى في المسير أو حركة الأيدي في الحرث – إلى أنساق صوتية تهدف إلى "مزامنة الجهد الجماعي" وتطوير الذاكرة الوجدانية للمجتمع.


وفي المجتمع اليمني، الذي يُعد من أثرى المجتمعات الإنسانية التي امتلكت تراثاً صُنّف ضمن "التراث الثقافي المادي والتراث غير المادي" عالمياً، نجد أن الفنون التراثية هي المحرك الخفي للبنية الاجتماعية. فاليمني لم يوثق تاريخه بالتدوين فحسب، بل أودع همومه وقصصه وأساليب عيشه في "حناجر" المؤدين، مما جعل لكل نشاط بشري صوتاً خاصاً يعبر عنه. وفي هذا الفضاء الواسع، يبرز ريف الحجرية كخزان ثقافي حافظ على أصالة هذه الفنون، وتحديداً في فني الملالاة والمهاجل التراثية .

المهاجل : هي فنون صوتية جماعية، حضرت مع الأعمال الزراعية لا سيما الشاقة منها، وتُؤدّى في الغالب خلال العمليات الزراعية ضمن سياق العمل (كالزراعة، حفر الآبار، بناء السدود، أو نقل الأحجار)، لغرض كسر رتابة العمال وبث الحماس فيهم، وتعمل كأداة لتنظيم الجهد المشترك وتوزيع الأدوار.
الملالاة : فنون صوتية مصاحبة للحركة أو المسير الطويل، لا سيما ما كانت تُعرف بالجمّالة – أي التجارة والتنقلات عبر الجمال قديماً – وتُؤدّى غالباً بشكل فردي أو ثنائي. ولها وظيفة نفسية-اجتماعية في التعبير عن الشوق والحنين والمعاناة وغيرها من هموم وقضايا الإنسان-الفلاح اليمني قديماً.

صوت الأرض وصدى الإنسان
- يجدر  التنويه إلى أن هذه التعريفات القائمة هي استنتاج شخصي تم بناؤه بناءً على رصدي وبحثي الميداني للنصوص والفنيين في الحجرية، وليست تعريفاً حصرياً وشاملاً، إذ أن المجال يتسع للتعريف بهذه الفنون بشكل متعدد الأوجه ومختلف السياقات.
هذه الفنون، كما وثقتها ميدانياً في كتابي أصوات من الماضي، لم تُخلق لتُحفظ في الأرشيف، بل لتُمارس داخل سياق اجتماعي واقتصادي متكامل.

2. ضغط السياسة وهيمنة الخطاب: إزاحة الأولويات

في اليمن اليوم، تبتلع السياسة كل المساحات: الخبر، الرأي، الجدل، والاهتمام العام. وفي خضم هذا الانشغال المستمر بالأحداث والتحولات والصراعات الناشئة عن الحروب وغياب المؤسسات الثقافية الفاعلة والجهات المعنية بالتراث والفن ، يُترك التراث خارج دائرة الأولويات بل ويكون آخر ما يمكن التفكير به بعقلية السلطة وأرباب القرار ، وكأنه شأن مؤجل أو ترف ثقافي. زهكذا تتحول الفنون الشعبية إلى مادة للحنين كما تؤكده تفاعل الجماهير على بعضاً من أنماط وفنون التراث التي تخرج إلى السطح ، لا إلى موضوع للبحث والتوثيق الجاد.
إنّ الخطر لا يكمن في غياب الاهتمام الحكومي فحسب، بل في ثلاثة مسارات متقاطعة تسرّع من اندثار هذه الفنون في الحجرية:
اغتصاب الفضاء العام: السياسة، في لحظات الأزمات، تُقصي كل ما لا يبدو عاجلًا، مما أدى إلى انحسار الدعم المؤسسي لجهود التوثيق والاشتغال على أنواع التراث.
فلا يزال الواقع السياسي اليمني مستمر في القضايا والتصاعد والذي لا يلبث أن تشهد بين أيام الأسبوع حدثاً سياسياً تدخل معه اليمن قاطبةً إلى مرحلة متذبذبة بين التأييد والاتهام ، فيما تستمر بعض جهود التراث المنحصرة بين رسم جدارية أو لوحة معينة تتناول شيئاً من التراث أو إقامة فعالية / ندوة حول مواضيع الهوية الثقافية - التراث ، فتتشكل الجماهير البسيطة حولها التي في الغالب ما تكون من الفاعليين الثقافيين والمشتغلين على حفل التراث دون غيرهم.

تفكك رأس المال الاجتماعي:
مع تلاشي المجتمع الزراعي والثورة الصناعية وتراجع منسوب الاقتصاد الناتج عن منتجات الزراعة في الريف خلال عشرات السنين وصولاً إلى تحول المجتمع من أفراد يعتمدون على الزراعة إلى أفراد يعتمدون بدرجة كاملة على الصناعة والتجارة ،وتراجع العملية الزراعية في الأرياف اليمنية بدرجة مرتفعة ابتعد الشباب عن العمل الزراعي لاسيما المرتبط بفنون المهاجل بفعل الهجرة الداخلية والخارجية، الأمر الذي قد أدى إلى فقدان "الوعاء البشري" الذي كان يحمل هذه الممارسات ويحتفظ بذاكرته بعضاً من التراث الشفاهي أو أي فنون مصاحبة تندرج ضمن قوائم التراث بشكلٍ عام .

الاختراق الثقافي: مع تقدم الوسائل الإعلامية وتطورها و سيادة الإعلام الرقمي وتأثيره على المجتمع بالإضافة إلى الحرب اليمنية منذ انقلاب جماعة الحوثي على الشرعية اليمنية المعترف بها دولياً من العام 2014 والتي بدورها أغلقت الكثير من المؤسسات الثقافية أبوابها أمام المبدعين ، كل ذلك قد أدى إلى هيمنة الإعلام الجديد والخطابات الثقافية السريعة ممهدةً الطريق نحو تآكل الذوق الجمعي والنفور من الفنون الصوتية الجماعية التي تتطلب جهداً وزمناً، مما يسرّع بعملية اندثار الذاكرة الجيلية التي تحتفظ بالكثير من التراث بشتى أنواعه.

3. غياب الرعاية المؤسسية في المركز: تجربتي في توثيق الحجرية دليلاً

على الرغم من الزخم الحضري والمبادرات والمؤسسات الثقافية التي يفترض أن تضطلع بدور الريادة في حماية التراث، تظل مدينة تعز متقاعسة عن توفير رعاية أو تنمية فعلية وحقيقية لهذا القطاع. هذا الغياب الصارخ للرعاية يتجسد في الصعوبات التي واجهتها شخصياً كباحث في جهدي للتوثيق والحفظ.
ويُعدّ كتابي "أصوات من الماضي"، الذي وثّق فنون الملالاة والمهاجل في ريف الحجرية، شاهداً حياً على هذه المعضلة. الكتاب، وهو إصداري الثالث، الصادر في منتصف عام 2024، والذي كان نتاج منحة بسيطة ضمن مشروع فردي فزت به بالمنافسة ومُموَّل من المجلس الثقافي البريطاني. لقد قمت بطباعة كامل العدد المتفق عليه في إطار هذه المنحة وتم توزيع النسخ القليلة.

وبعد فترة وجيزة من صدور الكتاب وتوزيع نسخه المحدودة، بدأتُ طوال ما يزيد على سنة ونصف بالبحث عن جهة حكومية أو خاصة أو مؤسسة ثقافية، أهديها الكتاب لتعيد طباعته وتوزيعه بشكل مجاني على القراء، دون أن أبتغي من ذلك أي مقابل مادي شخصي، بهدف واحد هو ضمان وصول المعرفة الموثقة للجمهور العريض. ومع الأسف، لم أحصل على أي استجابة تُذكر.
إن غياب دار نشر فاعلة في تعز لا يعفي المؤسسات الثقافية من مسؤوليتها عن دعم المنتج المعرفي التراثي. هذا التجاهل المتعمد يؤكد أنه ليس هناك رعاية أو تنمية فعلية وحقيقية في تعز، وأن التراث ما يزال يُعامَل كـ "ترف مؤجل".

إلا أن التحدي لم يكن مقتصراً على غياب ما تم ذكره سابقاً، إذ أن هناك تحديات مستمرة في كافة المدن اليمنية يواجهها الكتاب والأدباء والصحفيين في مختلف المدن اليمنية ومنها  البيئة المعقدة التي لا تقدّر أي جهود يبذلها أيّ كاتب بل وارتفعت كمية القيود سواءً في مدن واقعة ضمن سيطرة مليشيا الحوثي أو في المدن التابعة للحكومة الشرعية وفي تعز المينة التي على الرغم من الزخم الحضري والمبادرات الثقافية، لا يزال هناك تقاعس عن توفير رعاية أو حماية فعلية لأي مبدع أو باحث. فخلال فترة سابقة، تعرضت شخصياً للاحتجاز والتحقيق وتوجيه تهم سياسية، ولم يكن ذلك مرتبطاً ببحثي في التراث أو عملي كباحث، بل كان جزءاً من بيئة عامة لا توفر حماية لأي مبدع فلا يزال الكاتب في أي مدينة باليمن محاصر بالقيود وأساليب القمع والترهيب .
ولولا تدخل نقابة الصحفيين ومتابعتها لقضيتي، ودعم كتابات ومواقف بعض الأصدقاء والأدباء والناشطين والصحفيين، لما تمكنت من الخروج من الاحتجاز. هذه التجربة تبرز مدى غياب الدعم المؤسسي والحماية، وتوضح الحاجة الملحة لرعاية المبدعين الباحثين في المجال الثقافي.


4. الأثر الوجودي: فقدان الوظيفة والتحول إلى طقس شكلي

هذا التجاهل المؤسسي من قبل الجهات المعنية لا سيما خلال سنوات الحرب ، قد ساهم بشكل مباشر في عملية تفكك الذاكرة الجمعية في الأطراف (الحجرية)، مؤكداً أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في اندثار النصوص الشعرية أو الممارسات الإيقاعية للملالاة والمهاجل، بل في فقدان المعنى الذي تحمله.
حين يغيب هذا المعنى، يتحول التراث إلى قشرة شكلية قابلة للاختزال والتزييف، يُنظر إليها بوصفها مظهراً شكلياً للاحتفال وليس وظيفة حياة. إن فنون العمل الجماعي (كالمهاجل) تمنح المجتمع رأس مال اجتماعي وقدرة على التنظيم الذاتي. حين تفقد هذه الفنون سياقها، تصبح الجهود الفردية، رغم ضرورتها، غير كافية ما لم يتغير الوعي العام تجاه التراث.

5. الخلاصة والتوصيات العملية: نحو عودة فعلية للتراث :

إن التعامل مع التراث باعتباره مسألة مؤجلة أو هامشية، في ظل هيمنة السياسة على المجال العام، لا يؤدي إلا إلى تسريع اندثاره. وبين غياب السياسات الثقافية واستمرار الأزمات، تبقى جهود التوثيق الفردية محاولة ضرورية، لكنها غير كافية ما لم يُعاد الاعتبار للتراث بوصفه جزءًا من الوعي الجمعي.
يبقى السؤال: متى تكون هناك عودة فعلية للتراث والتفاتة حقيقية إليه؟ إن الجواب يبدأ بإشراك الشباب والمبدعين وتقديم مخرجات حقيقية.
بناءً على هذا المقال التحليلي، نُقدّم التوصيات العملية التالية:
توثيق شامل للتراث: ضرورة إطلاق مشروع توثيق ميداني عاجل، بالتعاون مع المبادرات المحلية، لتوثيق الأداء الصوتي الحي والآلات المرافقة بأعلى تقنية، قبل اندثار الجيل المُتبقّي من الشعّار والمهجّلين في الحجرية.
دعم كل جهود التوثيق ورعاية الباحثين وحمايتهم: يجب على المؤسسات الثقافية في تعز تبني سياسات تدعم بشكل شامل ومستدام كل جهود التوثيق الفردية والمؤسسية، مع توفير الرعاية والحماية اللازمة للباحثين الميدانيين العاملين في هذا القطاع الحيوي.
دمج التراث في المناهج المحلية: الدعوة لدمج نصوص المهاجل والملالاة كجزء من أدب العمل واللغة العامية في المناهج التعليمية المحلية بريف الحجرية، لاستعادة النقل المعرفي بين الأجيال.
تأسيس شراكة مجتمعية: المطالبة بتفعيل دور المؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية لدعم مبادرات التنمية الثقافية، وتوفير التمويل لـ "صندوق طوارئ ثقافي" موجه لتمويل المبادرات الفردية المختصة بالتوثيق والدراسة بعيداً عن صخب الأجندات السياسية.

الكلمات الدلالية