"التهميش بابتسامة": استراتيجية السلطة لتقويض حمص السورية وريمة اليمنية
تُظهر دراسة أنماط إدارة الوعي الجمعي في محيطنا الإقليمي تشابهاً لافتاً في استخدام الأدوات غير المباشرة لتثبيت مفاهيم معينة. إن ظاهرة التهميش بابتسامة، حيث تتحول الفكاهة الساخرة إلى أداة لتقويض الأهمية الجيوسياسية والتنموية للمناطق الحيوية، لم تعد مجرد صدفة ثقافية، بل هي استراتيجية سردية مركزية محكمة.
هذا التحليل يهدف إلى مقاربة حالة حمص (إيميسيا) في المشرق العربي وحالة ريمة "سقف تهامة"في الخاصرة اليمنية، لكشف تكتيك السلطة في تجريد هذه المناطق من وزنها الحقيقي لعرقلة تمكينها السياسي المستحق.
تتكرر الآليات السياسية في صياغة الوعي الجمعي، وإن اختلفت البيئات الجغرافية. فمن حوض المتوسط إلى جنوب الجزيرة العربية، تستخدم السرديات المركزية سلاحاً ناعماً لا يثير الاحتجاج المباشر، ولكنه ينجح بفعالية في التنميط: النكتة كآلية سياسية.
إنها استراتيجية قائمة على تحويل مناطق ذات ثقل تاريخي واستراتيجي إلى مجرد مصادر للفكاهة، لتسهيل عملية عزلها عن مركز القرار. هذا التكتيك يربط بين ظاهرة اختزال حمص في "خفة الدم"، وظاهرة اختزال ريمة في السخرية من "العربية"، بهدف كشف مساعي عرقلة التمكين السياسي لتلك المناطق.
تُعد حمص (إيميسيا)، بحكم موقعها المركزي الذي يجعلها مفتاحاً لربط الساحل بالعمق الشرقي والشمالي، مركز ثقل جيوسياسي لا يمكن تجاوزه في المعادلة السورية. هذا الثقل دفع الأطر السردية المهيمنة إلى محاولة تفريغه من محتواه الجاد عبر آلية النكتة.
تم تضخيم ظاهرة الفكاهة الحمصية، وتحويلها إلى سمة جوهرية تنطوي على البساطة الذهنية لأهلها، مما أدى إلى التقليل من شأن أي حراك أو مطالب سياسية أو تنموية جادة تخرج من هذه المدينة. وعليه، تحولت النكتة إلى عازل ناعم يمنع حمص من أخذ دورها المستحق كقوة تأثير، جاعلاً النقد الصادر عنها مجرد "دعابة" لا ترقى إلى مستوى الأجندة الوطنية.
إن أعمق ما يكشفه هذا التكتيك هو التكييف الاستراتيجي للتنميط وفقاً لجوهر القوة المراد تحييدها.ففي حمص، استهدفت النكتة المنطق والقدرة الإدراكية عبر نماذج تتندر على الفهم الساذج للمواقف، كالسخرية من ربط الأسباب بالنتائج. أما في ريمة، حيث يكمن الثقل في رأس المال البشري الكادح والصلابة الاقتصادية، فقد استهدفت السخرية الكرامة الطبقية، عبر ربط الهوية الريمية بـ "العربية".
هذا التحول من السخرية الفكرية إلى السخرية المهنية-الاجتماعية يثبت أن القصد هو تثبيت التخلف التنموي المفروض وليس مجرد إضحاك الناس.في اليمن، تتخذ هذه الآلية نفس المسار ولكنها تكتسب بُعداً سوسيو-اقتصادياً مرتبطاً بظاهرة الإهمال التنموي الممنهج لمحافظة ريمة.
رغم أن ريمة هي مصدر للكوادر التي تتمتع بصلابة العيش وكفاحه، فإن غياب التنمية اضطر أبناءها للكفاح في المراكز الحضرية الكبرى حاملين عربات البيع.هنا، وجهت السخرية نحو هذه "العربية" نفسها، فتحوّل الكفاح المشروع إلى مادة للتندر والاستعلاء، متجسداً في العبارة: "يا ريمي يا عربية!". كان الهدف التنميطي واضحاً: التقليل من وزن المطالب الجادة، وإضفاء مشروعية ضمنية على استمرار حرمان هذه المنطقة من التمكين، باعتبارها كتلة اجتماعية مرتبطة بالوظيفة الأدنى.
إن التشابه بين قصص حمص وريمة يكشف عن وحدة استراتيجية السلطة في التهميش: تليين المقاومة وتحييد الوعي عبر الفكاهة. ومع ذلك، يثبت التاريخ أن هذا التنميط لا يصمد أمام إرادة التغيير أو الحاجة الوطنية.
فبعد أحداث 2014 في اليمن، أثبت أبناء ريمة أنهم من السباقين لحمل العبء الوطني، مما أعاد تسليط الضوء على أنهم لم يكونوا يوماً حاملين لعربات بيع فحسب، بل كانوا يحملون همّ الدولة. إن التحدي يكمن اليوم في استعادة الرواية، وتفكيك هذه الأنماط الساخرة، لتعود حمص وريمة لتمثلا ثقلهما الجيوسياسي والبشري المستحق في معادلة القرار، بدلاً من أن يكونا مجرد هوامش ساخرة على صفحات الوعي الجمعي في كلا الدولتين.