صنعاء 19C امطار خفيفة

"المكان واللامكان" صورة العرب والغرب

"المكان واللامكان" صورة العرب والغرب
زهران ممداني

في الرابع من نوفمبر 2025 فاز زهران ممداني، الأميركي من أصولٍ هنديةٍ ومسلمة، بمنصب عمدة نيويورك، ليصبح أولَ عمدةٍ مسلمٍ وأولَ عمدةٍ من أصولٍ جنوب آسيوية في تاريخ المدينة.

فوزه لم يكن مجرد حدثٍ سياسي، بل رسالةً رمزيةً عن طبيعة المجتمعات التي تفكر في الغد، وتفتح أبوابها أمام التنوع، وتعتبر المهاجرَ واللاجئَ طاقةً تضيف إلى المجتمع لا عبئاً عليه. هذا الحدث أعاد إلى الذاكرة الفارقَ بين عالمين: بين الدول التي تلبس شعوبها الديمقراطية كقيمةٍ حقيقيةٍ تنتج الأمن والسلام والتطور، وبين الدول التي ترتدي ثوبها كزينةٍ شكليةٍ لتُخفي تحتها خوفاً قديماً من التغيير ومن الإنسان المختلف.
تذكرتُ حينها أنني في عام 2017 كنتُ في دولةٍ عربيةٍ أقدّم ملفي إلى المنظمات المعنية بحق اللجوء أو الإقامة. كنتُ أبحث عن مساحةِ حياةٍ مستقرة، عن دواءٍ مفقود، وعن عملٍ كريم، وعن هواءٍ لا تملكه السلطة ولا يتحكم فيه الفساد. لكن الانتظار طال، والملفات تراكمت، والديون تزايدت، والكرامة بدأت تذوب في طوابير الانتظار وأبواب الإدارات التي لا ترى في اللاجئ سوى عبءٍ إضافي. في تلك البيئات المغلقة، لا مكان للحلم، ولا تقدير لمعنى الإنسان الذي يحاول أن يبدأ من جديد، حتى وإن كان منضبطاً بالقانون، يدفع الرسوم ويعيش بنظامٍ واحترام.
في المقابل، في أوروبا وأميركا، لا يعني اللجوء نهاية الطريق، بل بدايته. هناك مسارٌ واضح، وقانونٌ منصفٌ نسبيًّا، وإمكانيةٌ لأن يتحول اللاجئ إلى عاملٍ ومنتجٍ ومواطنٍ كامل الحقوق، وربما إلى مسؤولٍ عام كما حدث مع ممداني. الدولة هناك ترى المهاجرَ باعتباره إضافةً، والمجتمع يتعامل معه باعتباره جزءاً من نسيجه الإنساني، لا كغريبٍ موقّتٍ أو خطرٍ محتمل. إنهم يفكرون للغد، ويعتبرون كل إنسانٍ مورداً يمكن أن يساهم في بناء المستقبل، بينما في العالم العربي ما زال اللاجئ يُنظر إليه كحالةٍ استثنائيةٍ يجب التخلّص منها أو تحمّلها على مضض.
تذكرتُ أيضاً قصةَ الممثل الصومالي برخد عبدي، المولود في العاشر من أبريل عام 1985 في مقديشو. عاش لاجئاً في صنعاء، هارباً من ويلات الحرب في بلده، محاطاً بالإقصاء والإهمال من مجتمعٍ لم يعرف أحدٌ فيه ماذا يجول في خاطره أو ما يحمله من أحلامٍ صغيرة. عاش على هامش الحياة، كأنه غريبٌ في مدينةٍ لا ترى إلا جواز سفره. لكنه حين غادر إلى أميركا، وجدت فيه تلك البلاد ما لم يجده في محيطه العربي: موهبةً، وطاقةً، وإنساناً يستحق أن يُمنح فرصة. هناك، فُتحت أمامه الأبواب، فدخل عالمَ السينما وأصبح نجماً عالمياً في أفلامٍ مثل كابتن فيليبس عام 2013، وعين في السماء عام 2015. لم يكن عبدي مجرد ممثلٍ ناجح، بل رمزاً لإنسانٍ وجد مكاناً يُسمع فيه صوته بعد أن عاش صامتاً. فكر الغربُ فيه بما لم يفكر به أحدٌ من قبل، واحتضن الحلمَ الذي وئدته بيئاتُ الخوف والشكّ في العالم العربي.
الممثل الصومالي برخد عبدي
ما حدث مع عبدي وممداني يكشف الفارقَ بين ثقافتين: واحدةٍ ترى في الإنسان طاقةً يجب أن تُستثمر، وأخرى تراه شبهةً يجب أن تُراقب. الفارق بين التجربتين ليس مادياً فحسب، بل فكريًّا وحضارياً. الشعوب التي تفكر للمستقبل تزرع في مؤسساتها قيمَ العدالة والاحتواء، تفتح أبوابها للطاقات، وتربط الأمنَ بالثقة لا بالمنع، والسلامَ بالعدالة لا بالخوف. أمّا الشعوب التي تُغلق على نفسها فتعيش داخل دوائر ضيقةٍ من الخوف والشكّ والولاءات الصغيرة. هناك تصبح الإقامة اختباراً للإذلال، والبيروقراطية أداةً لتذكيرك بأنك لا تنتمي، وأنك مهما التزمتَ بالقانون ستبقى موضعَ ريبة. في مثل تلك الأجواء يختنق الإبداع، ويهاجر العطاء، وتتحول البلاد إلى مساحاتٍ رماديةٍ يفرّ منها أبناؤها بحثاً عن كرامةٍ مفقودة.
ما حدث في نيويورك ليس معجزة، بل نتيجة تراكم وعيٍ مؤسساتيٍّ طويلٍ يرى في الإنسان قيمةً بذاته. فالديمقراطية هناك ليست ترفاً سياسياً، بل آليةً لاكتشاف القدرات. حين تسمح الدولة لمهاجرٍ حديثِ العهد بالحصول على جنسيتها ثم ببلوغ منصبٍ رفيع، فإنها تقول ضمنيًّا: إنّ الانتماء يصنعه الفعل لا الدم، والولاء يُبنى بالمشاركة لا بالوراثة. إنّ اللاجئ أو المهاجر حين يُمنح فرصةً عادلة، يصبح جزءاً من ماكينة التطور، وتتحول تجربته الخاصة إلى طاقةٍ عامةٍ تدفع المجتمع إلى الأمام.
في المقابل، حين يُحاصر اللاجئُ العربي في البلدان العربية، يُقتل داخله الإيمانُ بالجدوى. يصبح محكوماً بأن يعيش على الهامش، في انتظارٍ دائمٍ لا نهاية له. يُمنع من العمل في كثيرٍ من المهن، تُقيَّد حركته، ويُعامل كمصدرِ خطرٍ لا كإنسانٍ يطلب الأمان. والأنكى من ذلك أن هذه الدول تفقد ما يمكن أن يضيفه إليها من علمٍ وخبرةٍ وإنتاج. فهي لا تخسر اللاجئ فحسب، بل تخسر معه فرصةً للتجدد.
الفارق بين الحالتين هو في البنية الفكرية قبل السياسية: هناك ثقافةٌ تعتبر الدولة بيتاً مشتركاً، وثقافةٌ تعتبرها حصناً قبلياً. الأولى تزرع الثقةَ في الفرد لتصنع بها مجتمعاً أقوى، والثانية تزرع الخوفَ لتصنع طاعةً أضعف. الأولى تتسع للجميع لأنها واثقةٌ من نفسها، والثانية تضيق بأبنائها لأنها خائفةٌ منهم.
ولعل تجربةَ ممداني وعبدي تختصر المسافة بين الحلم والواقع، بين وطنٍ يفتح ذراعيه وآخر يكتفي برفع الأسوار. في الغرب يجد اللاجئُ العربي مساحةً لأن يُثبت نفسه، فيعمل ويتعلم ويتطور. أمّا في معظم البلدان العربية فيظل اللاجئُ أسيرَ ورقةِ إقامةٍ قابلةٍ للإلغاء في أي لحظة، محروماً من أبسط حقوق العمل والحياة. وبين التجربتين يظهر المعنى الحقيقي للكرامة الإنسانية، تلك التي لا تُمنح بشفقةٍ بل تُبنى بعدلٍ وثقةٍ وإيمانٍ بالإنسان.
إنّ ما يصنع الفارقَ بين الشعوب ليس غناها ولا مواردها، بل قدرتها على تحويل الإنسان إلى مشروعِ حياة. الدول التي تفكر للغد تدرك أن كرامة الفرد هي أساس أمنها، وأن احتضان المختلف هو طريقها للاستمرار. أمّا الدول التي ما زالت تُغلق على نفسها وتعيش في كهوفها الضيقة، فستبقى تدور في دوامة الخوف والشكّ حتى تفقد القدرة على أن ترى النور الذي يأتي من الخارج.

الكلمات الدلالية