رسالة إلى رجال الحادي عشر من فبراير 2011م
إهداء:
إلى روح أديب اليمن الكبير عبدالعزيز المقالح، إلى الرجل الذي علّم الحروف أن تكون وطنًا، والكلمة أن تصير موقفًا، والشعر أن يضرب بمعاول الضوء في جدار العتمة.
إليك يا من حملت وجع اليمن في صدرك، كما يحمل الأب قلب أبنائه بين ضلوعه، ومضيت صامتًا حزينًا، تُخفي تحت صمتك صرخة وطنٍ ذبلت أحلامه بين أيدي المتنازعين، وتاهت ثوراته بين خيانات التاريخ.
كنت شاعر سبتمبر وضمير أكتوبر، وصوت فبراير الذي لم يخفت، وإن خفتت الأصوات من حوله. آمنت بالإنسان قبل الحزب، وبالوطن قبل القبيلة، وبأن الحرف لا يُقال ليُعجب، بل ليُوجع ويُوقظ.
رحلتَ يا أبا الشعر، لكن كلماتك مازالت تفتح في جدار اليأس نوافذ للنور، ومازال شباب اليمن يتهجّون في أنشودتك "الصمت عار" ليتعلموا منها معنى البقاء والرجاء.
نم قرير العين يا أستاذ الأجيال، فما زرعته من وعيٍ لا ولن يموت، وما خطّه يراعك في وجدان اليمنيين باقٍ ما بقيت شمسٌ تشرق على جبال صنعاء، ومادام في هذا الوطن من يؤمن بأن النور يُنتزع، ولا يُستجدى.
أيها الرجال الذين كانوا في الحادي عشر من فبراير 2011م شبابًا تفيض أرواحهم بالرغبة في الحرية والتغيير، خرجتم يومها بالملايين في ساحات المدن والميادين، تهتفون بوطنٍ جديد، وتحلمون بنظامٍ ديمقراطي يعيد للإنسان كرامته، وللوطن مكانته التي يستحقها. كانت ثورتكم لحظة فارقة في تاريخ اليمن الحديث، لحظة قرر فيها جيلٌ كامل أن يقول كلمته في وجه الاستبداد.
غير أن السنوات التي تلت ذلك اليوم حملت معها خيباتٍ كثيرة، وتراكمت فوق الأحلام غيومُ الانقسام والتعب والإحباط. ومع مرور الزمن، خفتت جذوة التغيير في القلوب، وأرهق الانتظار كثيرين منكم حتى بدا الحلم بعيدًا، وربما مستحيلًا.
لكن، أما آن الأوان لأن تستعيدوا إيمانكم الأول؟ أما آن أن تُصغوا لنبض الأجيال التي سبقتكم، أولئك الذين لم يعرفوا للخنوع معنى، ولا للخذلان طريقًا؟ تعلّموا من الذين أحبّوا الحرية كما تحبّ الأرض مطرها الأول، فانتزعوها من بين أنياب الظلم انتزاعًا، وكتبوا بدمائهم وإصرارهم حروف الكرامة على جدار التاريخ.
لقد كان أولئك يؤمنون أن العتمة ليست نهاية الطريق، بل بدايته، وأن في كل جدارٍ مغلق فرصةً للحفر، وفي كل انكسارٍ دعوةً للنهوض من جديد. كانوا يرون في اليأس خيانةً للحلم، وفي الصبر طريقًا للنصر.
ومن بين رموز تلك الروح، يبرز صوت الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح، الراحل الباقي، الذي آمن بأن الكلمة فعل مقاومة، وأن الإصرار هو الطريق الوحيد للانتصار. في شبابه، كتب المقالح أنشودته الشهيرة التي أصبحت عنوانًا للإصرار، ودليلًا للأجيال على أن النور لا يُستجدى، بل يُنتزع:
الصمت عار
الخوف عار
من نحن
عشاق النهار
نحيا
نحب
نخاصم الاشباح
نحيا في انتظار
سنظل نحفر في الجدار
إما فتحنا ثغرة للنور
أو متنا على وجه الجدار
لا يأس تدركه معاولنا
ولا مللٌ، لا انكسار
إن أجدبت سحب الربيع
وفات في الصيف القطار
سحب الربيع ربيعنا
حبلى بأمطار كثار
ولنا مع الجدب العقيم
محاولات واختبار
وغدًا يكون الانتصار
وغدًا يكون الانتصار
بهذه الكلمات الخالدة، يلخّص المقالح فلسفة الأمل والمقاومة في وجه العجز واليأس، موجّهًا رسالته لكل جيلٍ يواجه الانكسار: إن النور يولد من عمق الحفر، وإن الفجر لا يغيب عن الذين يؤمنون بقدومه.
يا رجال فبراير، إن الثورات لا تموت، بل تمرض لتتعافى، وتخبو لتشتعل من جديد. إنّ الحفاظ على روحها مسؤولية كل من آمن بها ذات يوم، فالثورات لا تنجح في الميادين فقط، بل في القلوب والعقول والإرادة المستمرة على رفض القيد والظلم.
يا رجال فبراير، إنه بعد أكثر من عقدٍ على ثورتكم الخالدة التي تم الانقلاب عليها بصورتي مادتين من قبل الدولة العميقة، الأولى بقيادة علي محسن وحزب الإصلاح، والثانية بقيادة رأس النظام السابق مع حلفائه ومنذ ذلك التأريخ مايزال المشهد اليمني يرزح تحت وطأة الحرب والانقسام، وتتنازع الأرض قوى متصارعة ومشاريع صغيرة حاولت أن تطمس حلم الدولة المدنية الذي خرجتم من أجله. تتبدّل الوجوه، وتتغيّر الشعارات، لكن جوهر المأساة واحد: وطنٌ يبحث عن ذاته، وشعبٌ يتوق إلى سلامٍ عادلٍ وحريةٍ حقيقية.
وربما تبدو الطريق اليوم أكثر وعورةً وتعقيدًا، غير أن دروس التاريخ تقول إن الثورات لا تُقاس بنتائجها القريبة، بل بقدرتها على إحياء الفكرة في الوعي الجمعي للأمة. وإن روح فبراير -برغم كل الانكسارات- مازالت حاضرة في وعي اليمنيين، تتجدد في كل صوتٍ يرفض الاستبداد، وفي كل نفسٍ مؤمنٍ بأن الحرية حقٌّ لا يسقط بالتقادم.
إن استعادة تلك الروح لا تكون بالشعارات، بل بإحياء القيم التي قامت من أجلها: العدالة، والمواطنة، والدولة التي تحمي الجميع. فاليمن اليوم أحوج ما يكون إلى وعيٍ جديدٍ يعيد بناء الإنسان قبل البنيان، وإلى جيلٍ يحمل معول المقالح ليحفر في الجدار من جديد، حتى تنفتح ثغرة النور التي حلم بها الجميع. "فإما فتحنا ثغرة للنور، أو متنا على وجه الجدار...!".