صنعاء 19C امطار خفيفة

جمال عبد الناصر.. 55 عاماً من الخلود..(الأخيرة)

هل كان عبد الناصر ديكتاتوراٌ؟! .... الخلاصة..

في مطلع هذه الخواطر أوردنا تعريفاً محدداً لمفهوم الديكتاتور، وتساءلنا عن مدى اقتراب جمال عبد الناصر أو بُعده من أيٍّ من دلالات ذلك المفهوم. والآن بعد هذه الإطلالة على محطات هامة من تجربته، والوقوف على جوانب من مسلكه وسيرته، وتلمّس ما تركه من أثرٍ في وجدان أمته، يمكن القول بثقة إن الإجابة باتت واضحة وجليّة.
طوال فترة حكمه، لم يكن عبد الناصر حاكماً مطلق اليدين في فراغ مؤسسي، ولم يمارس يوماً سلطته خارج الإطار الدستوري. بل كان حريصاً على تمكين المؤسسات من أداء مهامها بكل فاعلية. ولم يكن هناك من سبب يدفع عبد الناصر لتعطيل المؤسسات الدستورية أو الانتقاص من دورها، وليس بحاجة إلى اصطناع هيئات أو مؤسسات كواجهات شكلية ثم إفراغها من محتواها؛ لأنه ببساطة كان واثقاً من نفسه ومن مشروعه كل الثقة. ومن الدلالات الواضحة على تلك الثقة - وعلى تقديره لأهمية البناء المؤسسي وأهمية تراكم الخبرة التاريخية المؤسسية - حرصه الشديد على توثيق كل مجريات التجربة، فلم تكن هناك شاردة أو واردة في نشاطه إلا وسُجِّلت ووُثّقت على نحو يثير الدهشة.
لم تُعرف عن عبد الناصر نزعة شخصية لتجاوز القانون أو تعطيله، ولم تُسجَّل عليه ممارسات تنطوي على تجاوز متعمّد للقانون، بل تشير الشواهد إلى أنه لم يُقدِم على اتخاذ أي قرارات أو إجراءات صغيرة أو كبيرة، إلا في نطاق القواعد الدستورية والقانونية السارية، وفي إطار المؤسسات الدستورية القائمة، وبعد إجراء دراسات وأبحاث مستفيضة في ذلك الشأن.
سعى بكل جهده لإقامة حياة ديمقراطية سليمة. ولأنه كان شاهداً على الديمقراطية الزائفة - ديمقراطية النصف في المئة - في العهد الملكي؛ أيقن أنه لا يمكن أن تتحقق الديمقراطية السليمة إلا بتحرير إرادة الإنسان أولاً من الحاجة والفاقة، ومن الخوف على حياته وعلى مستقبله، ومن الجهل. ولم يدّخر جهداً في السير على طريق شاق لمواجه ذلك التحدّي، فكانت تلك الإجراءات الثورية الجسورة التي أثمرت تحولات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية عميقة أعادت الاعتبار للإنسان وحريته وكرامته، وفتحت أمامه آفاق المشاركة السياسية الحقيقية الفاعلة، واجتهد في إقامة تنظيمات سياسية جماهيرية لتجسيد تلك المشاركة. وكان قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى نهاية المسار في التحول الديمقراطي لولا وفاته المفاجئة.
كان عبد الناصر يمقت العنف، ولا يعرف الانتقام، ولم يتصرف يوماً بهذا الدافع. ولم يتوانى عن معاقبة كل من تورط في قضايا انتهاك حقوق الإنسان، ولم يَحدُث مُطلقاً أن وفّر بشخصه ملاذا لأي منحرف أو فاسد.
جمع عبد الناصر فضائل إنسانية وصفات قيادية عزّ أن تجتمع في شخص واحد. ألزم نفسه بمعايير قِيَميّة وأخلاقية عالية لا يقدر عليها سوى ذوي الهمم العالية من الزعماء العظام المخلصين. عاش بسيطاً في حياته الخاصة، زاهداً في متاع الدنيا، متواضعاً في سلوكه العام، قريباً من شعبه، صادقاً في تعامله، طاهراً من شبهة فساد، لم يُعرَف إلا بالاستقامة، ولم يتمكن خصومه من رصد زلة واحدة تشوب مسلكه الشخصي أو ذمته المالية، ورحل عن الدنيا وليس في يده سوى حب الناس.
تمتّع عبد الناصر بشعبية استثنائية لم يحظَ بها زعيم مصري قَبله أو بَعده، تجاوزت حدود مصر إلى كل أرجاء الوطن العربي. ولم تكن تلك المحبة الجارفة له، محض صدفة، أو صناعة دعاية مُضلِّلة؛ بل تعبيراً عفوياً صادقاً عن تلاقي مشروعه الوطني والقومي مع آمال الأمة العربية وتطلعاتها نحو الحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة والنهضة.
كان من الطبيعي أن يواجه مشروع عبد الناصر مقاومة شرسة من قوى الاستعمار وحلفائها الرجعيين. ولم يكن غريباً أن يقف ضده الإقطاعيون وأصحاب الامتيازات الذين مسّهم مشروعه الاجتماعي، فهذه خصومات مفهومة في سياقها التاريخي. غير أن ما لا يمكن تبريره هو ان تتحول الخصومة السياسية إلى كراهية عمياء وضغينة مستحكمة لا تتورّع عن تشويه التاريخ وتزييف الوعي. ولا عذر لتيار سياسي أن يستمر في استجرار حقده بعد رحيل عبد الناصر، جاهداً في تشويه صفحة مشرقة من تاريخ الأمة لمجرد خصومة سياسية تاريخية ارتبطت بزمانها وظروفها، وأن يتم ذلك على حساب الحقيقة، وحق الأمة في تراكم رصيدها التاريخي الوضيء.
فعبد الناصر تجربةً ومشروعاً ليس ملكاً شخصياً لأسرة أو جماعة أو حزب أو تنظيم أو تيّار سياسي، بل إرثاً مشتركاً للأمة باسرها وجزءًا من وجدانها العام، ومن حقها، بل ومن واجبها، أن تضعه على محك التاريخ، وتقيّمه بموضوعية، لتراكم به خبرتها في بناء مستقبلها، لا أن تهيل عليه ركام الأحقاد والضغائن.
إن وصف عبد الناصر بـ"الديكتاتور" اختزالٌ فجّ لتجربة تاريخية فريدة، وتبسيط مُخِلّ لمرحلة شديدة الثراء والتعقيد، بل هو اجتراء على الحقيقة، وترويج ساذج لخطاب القوى المعادية للامة التي لا تَخفى أهدافها، واستخفاف وَقِح بوعي جماهير هذه الأمة التي منحت عبد الناصر ثقتها وحبها، وتوَّجته بإرادتها الحرة زعيماً لها دون منازع.
كان جمال عبد الناصر واحدًا من أولئك القادة القلائل الذين يمرّون في التاريخ فيتركون وراءهم أثرًا لا يُمحى؛ بالطهر الذي عاشوه، وبالزهد والإخلاص الذي سكن أرواحهم وجسّدوه في مسلكهم. جاءت به الأقدار في ظروف بالغة الدقة والتعقيد لِيعبُر بهذه الأمة جسر المستقبل. عمل بكل طاقته ما استطاع، وناضل بكل ما أوتي من قوة وجهد، مجسداً لِقِيَم أمته، مُستلهماً لتطلعاتها وأحلامها. اجترح مشروعاً لنهضة الأمة مازال هو الخيار المتاح أمام هذه الأمة في الزمن المنظور.
لم يكن عبد الناصر ملاكاً منزهاً عن الخطأ، ولا نبياً معصوماً من الزلل، لكنه ببساطة كان بشراً سوياً، تجري عليه سُنَن الله في خلقه من الخطأ والصواب. أصاب وأخطأ ككل البشر، لكنه في كل ذلك كان مؤمناً بقضيته، مخلصاً لجماهير شعبه وأمته، أميناً على مصالحها، وفيّاً لقيَمها، وأسمى من أن يكون دكتاتوراً.
لقد وجد الناس في مشروعه تجسيداً حقيقياً لأحلامهم، وفي شخصه رمزاً حيّاً لِقِيَمِهم؛ فبايعوه بقلوبهم قبل أصواتهم، ورفعوه إلى مرتبة الزعامة الحقيقية، التي لا تُمنح بقرار، بل تُكتَسَب لمن يستحقها بالعمل، وتُعَمّد بالصدق والإخلاص والوفاء.
وفي ذلك المشهد الإنساني الخالد والمهيب يوم رحيله لم تكن جماهير الأمة من المحيط إلى الخليج تبكي- بدموعها الحارّة - زعيماً مُلهِماً فحسب؛ بل تبكي زمناً من الكبرياء والعزة والمجد، والأمل.
رحم الله جمال عبد الناصر، وأسكنه علِّيين مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين.

الكلمات الدلالية