صنعاء 19C امطار خفيفة

جمال عبدالناصر.. 55 عاماً من الخلود (8)

هل كان عبدالناصر ديكتاتوراٌ؟!..

حكاية التعذيب..

لم يدّخر خصوم عبدالناصر جهداً في السعي إلى تشويه صورته والنيل من مشروعه الوطني والقومي بكل وسيلة ممكنة. وكانت قضية التعذيب في السجون المصرية من أبرز القضايا التي ظلت عنواناً رئيسياً في الهجوم على نظامه، حيث صدرت عشرات الكتب ونُشِرت آلاف المقالات وأُنتِجت أفلام عدة، سعت جميعها إلى رسم صورة قاتمة لتلك الحقبة، تَختزل التجربة بأكملها في مشاهد القمع وممارسة التعذيب.
لنتناول هذه المسألة بقدر من الموضوعية والإنصاف، سعياً إلى الحقيقة، بعيداً عن المبالغة أو التهوين والأحكام المسبقة.
لا ريب أن التعذيب عمل مشين، وجريمة مدانة أخلاقياً وإنسانياً، ولا يمكن لأي منظومة قِيَمية أو إنسانية أن تبررها أو تتسامح معها تحت أي ذريعة.
وينبغي الإقرار بأن ظاهرة التعذيب لها جذور تاريخية، سبقت عهد عبدالناصر واستمرت بعده، في مصر وغيرها من الدول، وبرزت بأشكال مختلفة عبر مراحل التاريخ، بما في ذلك فترات من التاريخ الإسلامي.
ولا شك ان هناك حالات تعذيب وقعت فعلاً في السجون خلال عهد عبدالناصر. غير أن نقص المعلومات الموثوقة والدقيقة حول تلك الوقائع، من حيث حجمها، وطبيعتها، ودوافعها؛ فتح الباب واسعاً أمام المبالغات والتوظيف السياسي والإعلامي لما جرى.
لقد تحولّت تلك القضية إلى سلاح في معركة طويلة لم يكن هدفها الحقيقة، بقدر ما كان الغرض منها إسقاط صورة عبدالناصر ومشروعه في الوعي العام. وللدلالة على ذلك يكفي الإشارة إلى ما تكشّف في السنوات الأخيرة بشأن المذكرات المنسوبة إلى الشيخة زينب الغزالي بعنوان "أيام من حياتي" التي طالما اُعتِبرت المصدر الأبرز في هذا الملف، والمرجع الرئيسي لعشرات المؤلفات اللاحقة. فقد اتضح أن تلك المذكرات لا تَمُت إلى الحقيقة بصلة، بل ثمرة خَيَال القطب الإخواني يوسف ندا، الذي اعترف بتأليفها، بهدف مُتعمّد ومُحدّد هو تشويه صورة عبد الناصر وعهده، مبرراً ذلك بأن "الحرب خدعة"!! وعلى حد قوله: "اللي تكسب به العب به"!!.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ اعترف يوسف ندا نفسه بتزوير وثيقة بالغة الخطورة، نَسَبَها زُوراً إلى لجنة مزعومة شكّلها عبد الناصر برئاسة رئيس الوزراء، قامت بوضع – وفق زعمه - خطة لاجتثاث جماعة الإخوان بل والقضاء على الدين ذاته!. وقد روَّجت الجماعة لهذه الوثيقة المفبركة على نطاق واسع، ونَقَل نُصوصها كبار رموزها في كتبهم، مثل "قذائف الحق" للشيخ محمد الغزالي، و"عندما يحكم الطغاة" للمستشار علي جريشة. وظلت هذه الوثيقة المزوّرة قيد التداول بوصفها وثيقة رسمية حقيقية، ومصدراً أساسياً للتعبئة التنظيمية، والتوجيه السياسي داخل الجماعة، وسلاحاً رهيباً للتشنيع على عبد الناصر ونظامه.
إن هذه الوقائع كافية لتكشف لنا بوضوح حجم التزييف الذي طال تلك المرحلة، ومدى الفجور في الخصومة الذي بلغ أقصى مداه في التعاطي مع عبد الناصر وتاريخه. ومن هنا، يصبح من الواجب التعامل بحذر شديد مع كل ما ينشر حول قضايا التعذيب في عهده، والنظر إليها في ضوء سياقاتها التاريخية والسياسية المعقدة، لا من خلال روايات مشحونة بالتحامل والضغينة. (تفاصيل اعترافات يوسف ندا، في مقال محمود الشهاوي في جريدة البوابة المصرية في 27/8/2021، ومقال د. محمد السعيد إدريس، الكذب والسياسة: الإخوان نموذجا في الأهرام المصرية 1/4/2014 على الرابط:
تُوفّي عبدالناصر، وطُويت صفحة نظامه، وتلاه نظام جديد بقيادة أنور السادات، الذي لم يَألُ جهداً في التعريض بعهد عبد الناصر، والنَّيل منه بشكل منهجي. وفي هذا السبيل شجّع هذا النظام على تقديم بلاغات ورفع دعاوى بشأن حالات التعذيب التي حدثت في عهد عبدالناصر. ومع ذلك لم يصل عدد البلاغات المقدَّمة - الصحيحة والكيدية - إلى الثلاثمائة بلاغ!!.
ورغم أن هذا الرقم قد لا يعكس بالضرورة العدد الحقيقي للحالات، إلا أنّه يقدِّم مؤشِّرا تقريبياً لحجم تلك الحالات.
وعندما نتمعّن في ظروف قضايا التعذيب التي حدثت – لا بغرض التبرير، بل بقصد الفهم ومقاربة الحقيقة – سنجد أن أخطر هذه التجاوزات حدثت في ظل ظروف استثنائية، واستخدام السلاح في مواجهة الدولة، ووجود أخطار جسيمة محدقة، ومنها: محاولة اغتيال عبد الناصر عام 1954، ثم قضية التنظيم المسلح عام 1965 وفيها كان التنظيم يخطط لنسف بعض القناطر والجسور ومحطات الكهرباء، والمباني، وغير ذلك. وفي هذه القضية حدثت أكثر التجاوزات؛ لأن الأجهزة الأمنية كانت في سباق مع الزمن لاكتشاف أعضاء التنظيم قبل تنفيذ عملياتهم، في وضع مثّل تهديداً وجودياً للدولة.
لا شك أن وقوع حالة تعذيب واحدة يُعد جريمة بشعة لا يمكن تبريرها بأي شكل من الأشكال. لكن في نفس الوقت ينبغي إدراك أن استغلال تجاوزات محصورة حدثت؛ لتعميم الإدانة على النظام بأكمله، وتقديمه – رغم كل الإنجازات التي حققها - على أنه كان مجرد آلة قمع، ليس فقط امتهان للحقيقة، لكنه بحد ذاته جريمة تزوير في حق الأجيال.
ويثور هنا تساؤل مُلِحّ: هل كان عبدالناصر يعلم بوقائع التعذيب التي حدثت في عهده؟!
ما هو معلوم أن عبد الناصر عندما عَلِم ببعض حالات التعذيب التي وقعت؛ عَاقَب المسئولين عنها. فمثلا عندما عَلِم بواقعة وفاة المرحوم شهدي عطية في السجن عام 1961، أصدر على الفور قرارا بفصل رئيس مصلحة السجون، وإحالته مع المسئولين عن الواقعة إلى النيابة العامة. وبعد نكسة 1967 أقيمت محاكمات للتجاوزات التي حدثت في الأجهزة الأمنية.
يقول علي صبري أنه ((خلال عملي وزيراً أو رئيساً للوزراء لم يحدث أن وصلني أي تقرير عن التعذيب في السجون، ولم يحدث أن علم الرئيس عبد الناصر بهذا التعذيب، إلا في حالة واحدة أدت إلى وفاة شهدي عطية قائد أحد التنظيمات الشيوعية)).
وعند سؤال كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة عن وصول معلومات إلى مجلس قيادة الثورة بحصول تعذيب للإخوان المسلمين عام 1954 إثر محاولة اغتيال عبد الناصر، أجاب بأنهم لم يعلموا بحصول شيء من ذلك.
وفي شهادة شمس بدران الذي كان له دور كبير في التحقيقات مع الإخوان عام 1965 اعترف بأن وقائع التعذيب التي حدثت يتحملها هو شخصيا ولم يتلق أي تعليمات بهذا الشأن من أي مسئول أعلى: ((إنني أتحمل المسئولية الكاملة عن كل ما وقع مما يسمى بالتعذيب في القضايا التي أشرفت على التحقيق فيها، فإذا كانت وسيلة الضغط والإجبار قد اتّبعت في بعض الحالات للحصول على المعلومات من المتهمين، قد كان ذلك يستهدف مصلحة عليا وهي أمن البلد وإنقاذها من الدمار والنسف، وليس لأي ضابط من هؤلاء المتهمين والماثلين أمام القضاء الآن أي مسئولية فيما حدث، وكان بوسعي أن أُبرئ نفسي وأقول أنا أيضاً كنت أُنفّذ أوامر كبار المسئولين الذين طلبوا مني ذلك، ولكنني أقولها: بل فعلت ما فعلت عن قناعة)) مع العلم أن شمس بدران كان قد حُكم عليه بالسجن في عهد عبدالناصر وعندما أصبح السادات رئيساً أفرج عنه.
ويقول محمد حسنين هيكل ((لا أعتقد أن عبد الناصر لم يحقق في أية حوادث أو تجاوزات بَلَغَه أنها وقعت)).
لا توجد أي شواهد تشير إلى أن جمال عبدالناصر كان على علم بما جرى من ممارسات التعذيب. وكل من عرف عبدالناصر عن قُرب، أو تناول سيرته بالدراسة الموضوعية، يدرك يقيناً أن الرجل الذي عاش كل حياته مدافعاً عن الكرامة والعزة والحرية لم يكن لِيَقبل ضميره بحدوث مثل تلك التجاوزات، لأنها تتناقض مع جوهر شخصيته، وغاية مشروعه الوطني والإنساني.
وذلك لا يعني تبرئة عبدالناصر من المسئولية، فمسئوليته ثابتة بلا شك، وهي مسئولية سياسية باعتباره رئيس الدولة والمسئول دستورياً عن حماية وحراسة القانون فيها. ومسئوليته أيضاً عن وجود خلل في عمل بعض الأجهزة يسمح لمناطق معتمة في النظام بإخفاء معلومات هامة عن رئيس الدولة وعدم وصولها إليه وإلى الأجهزة المختصة في الوقت المناسب.
في النهاية ليس المقصود هنا الدفاع عن عبدالناصر لذاته، ولا إلى تبرير ما وقع من تجاوزات خلال تجربته، وإنما محاولة الاقتراب من الحقيقة كما هي، بعيداً عن التزييف والتشويه. ومن الإنصاف الإقرار بأن أي نظام سياسي في أي زمان وأي مكان لا يمكنه ان يتحصّن تماماً من الأخطاء والتجاوزات. والمصلحة الوطنية تقتضي دراسة تلك الظواهر السلبية بعناية وتجرّد، بعين الباحث عن الحقيقة، لا بعين المتربص والمغرض؛ بما يضمن عدم تكرارها، بعيدا عن الاستغلال الرخيص ومحاولة طمس صفحة مضيئة من التاريخ المصري والعربي؛ خدمة لأعداء هذه الأمة.
...............
        التالي:... الخلاصة

الكلمات الدلالية