تعز.. شبكة نفوذ تمنح القتلة جوازات عبور لتهريبهم
في مدينة أُنهكتها الدماء لم تعد الجرائم تُقاس بعدد الضحايا بل بعدد الجوازات المزورة التي تُمنح للقتلة للهروب من وجه العدالة. وما يثير القلق ليس مجرد هروب قاتل واحد، بل التكرار والأنماط المتشابهة والبطاقات الشخصية التي تُستبدل والجوازات المزوّرة التي تمنح للقتلة، كما لو أن ثمن العفو يُدفع لدى نافذة الهروب.
قصة أمجد
في واحدة من أكثر الفضائح الأمنية غرابة، كشفت وثائق وشهادات عن تورط جهات رسمية في تسهيل هروب المدعو (ريان جميل قائد السلامي) المتهم بقتل الشاب (أمجد جميل عبده أسعد) في مارس 2021،
الجريمة وقعت في شارع محمد علي عثمان وسط مدينة تعز، لكن الصدمة الحقيقية جاءت بعد أشهر حين تبيّن أن القاتل تمكن من مغادرة البلاد بجواز سفر جديد يحمل اسم (كنان نجيب هزاع)، رغم صدور تعميم رسمي يمنع سفره. الوثائق تُظهر أن الجواز المزوّر صدر منتصف يوليو من العام نفسه، أي بعد الجريمة بأربعة أشهر فقط، ما يثير تساؤلات عن حجم التواطؤ داخل المنظومة الأمنية والإدارية.

أسرة الضحية أمجد جميل، التي وجدت الفرصة لأحياء قضية ابنها عقب الاحداث التي تلت اغتيال الشهيدة افتهان المشهري، عبّرت عن صدمتها من “الجهات التي يفترض أن تحمي العدالة فإذا بها تزوّرها”، مؤكدة أن ملف القضية ظل معلقاً منذ خمس سنوات دون حكم ابتدائي، في حين حصل القاتل على “خروج آمن” بغطاء رسمي، مشددة على مطلبها في العدالة وفي معرفة الجهات الرسمية التي سهلت حصول القاتل على هوية مزورة مكنته من الهروب خارج البلاد.
شواهد سابقة
هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها، بل تكرار لسيناريوهات مشابهة، أبرزها ما حدث مع (عاهد فهد طاهر رزاز)، أحد المدانين في قضية مقتل رجل الأعمال (أحمد الزوقري) والذي صدر بحقه حكم بالإعدام. لكن بدلاً من التنفيذ، حصل رزاز من إدارة الأدلة الجنائية في تعز على شهادة "حسن سيرة وسلوك" بعد أسبوع واحد فقط من صدور الحكم، لتُستخدم لاحقاً في تسهيل خروجه من البلاد والحصول على لجوء إنساني في إحدى الدول الأوروبية.

أما المتهم الٱخر في القضية نفسها (بكر صادق سرحان) قائد كتيبة الاحتياط في اللواء 22 ميكا، فقد صدر بحقه أيضاً حكم بالإعدام، لكنه بقي حراً طليقاً لأكثر من عام ونصف، قبل أن يُتحفّظ عليه شكلياً عقب مقتل الشهيدة افتهان المشهري، في محاولة لامتصاص غضب الشارع.
ولا يبتعد (بلال الوافي) كثيراً عن المشهد. ففي مايو 2019 أعلنت السلطات الأمنية في تعز القبض عليه باعتباره “أخطر المطلوبين أمنياً”، ومصنفاً من وزارة الخزانة الأمريكية كـ"عضو رئيسي في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب"، وهو نجل القيادي الإخواني علي محمد الوافي، لكن بعد أسابيع فقط من الضجة، اختفى اسم بلال من كل البيانات الرسمية، قبل أن تؤكد مصادر محلية وناشطون أنه أُفرج عنه سراً وغادر البلاد. بلال كان متهماً أيضاً بالضلوع في اغتيال موظف الصليب الأحمر الدولي حنا لحود في أبريل 2018.

هذه الوقائع المتكررة لا تمثل مجرد تجاوزات فردية، بل تعكس نظام حماية متكامل يُدار من داخل المؤسسات الأمنية نفسها، حيث يتحول المنصب إلى مظلة، والهوية العسكرية إلى جواز مرور. إنها جرائم منظمة تُدار بعناية، فيها يُهرَّب القتلة وتُدفن القضايا، وتُستبدل العدالة بأوراق مزورة وشهادات “حسن سيرة وسلوك”.
معملٍ لتدوير الجريمة
لقد تحولت تعز - بحسب ناشطين - إلى “معملٍ لتدوير الجريمة”، حيث يجري تهريب المتهمين عبر شبكات نفوذ سياسية وأمنية مرتبطة بقيادات عسكرية من حزب الاصلاح، والتي تسيطر على مفاصل القرار في المحافظة منذ عقد من الزمن. تعلن القبض على المطلوبين حين يثور الشارع، ثم تُفرج عنهم سراً حين تهدأ الأصوات، كما حدث مع (غزوان المخلافي)، الذي أصبح لاحقاً ضيفاً لدى ميليشيا الحوثي.

لم تعد القضية مجرد تهريب لقاتل أو محكومٍ بالإعدام، بل تهريب لقيم العدالة ذاتها. فما يجري في تعز اليوم ليس انفلاتاً أمنياً فحسب، بل تفكيك ممنهج لفكرة الدولة، وطمس متعمد لحدود الجريمة والعقاب، حتى يغدو القاتل "مقاوماً"، والمطلوب للعدالة "لاجئاً إنسانياً".