اليمن بين جدلية الثورة والارتداد: قراءة في دورة التاريخ السياسي الحديث
تُظهر الحرب اليمنية الممتدة منذ ما يزيد على عقدٍ من الزمن، ملامح ارتدادٍ تاريخي يعيد البلاد إلى ما قبل ثورتي السادس والعشرين من سبتمبر والرابع عشر من أكتوبر، وكأن التاريخ اليمني يعيش حالة من الدوران داخل حلقة مغلقة، حيث تتكرر الظواهر ذاتها بأسماء وشعارات مختلفة.
في شمال البلاد، يُعاد إنتاج النسق الإمامي بصيغته الكهنوتية القديمة في ثوبٍ حديث تحت مسمى “الحوثية”، وهي بنية سلطة تقوم على المرجعية السلالية والحق الإلهي في الحكم، مصحوبة بأدوات السيطرة التقليدية: الجباية، الإكراه، والعنف الرمزي والمادي. أما في الجنوب، فتبرز مظاهر الانقسام والهيمنة المحلية بما يشبه عودة المشيخات والسلاطين، وإن بأدواتٍ أشد تبعية وتأثرًا بالقوى الإقليمية، ما يجعل من الجنوب ميدانًا لتجاذب النفوذ أكثر من كونه كيانًا سياسيًا ذا سيادة فاعلة.
إن هذا المشهد المزدوج، شمالًا وجنوبًا، لا يمكن فصله عن جدلية الثورة والارتداد التي تحكم مسار التاريخ اليمني الحديث. فالثورتان اليمنيتان، سبتمبر وأكتوبر، مثّلتا لحظة انفجار للوعي الوطني ضد الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي، لكنهما لم تؤسسا لبنية مؤسسية تضمن استمرارية مشروع الدولة الوطنية الحديثة. وهنا يتحقق ما يسميه ابن خلدون في المقدمة بـ"قانون العصبية والدورة الحضارية"، حيث تبدأ الدول بالحماسة والثورة، ثم تضعف العصبية الجامعة، فينقلب مشروعها إلى تكرارٍ لِما ثارت عليه.
من المنظور نفسه، يمكن تفسير المشهد الراهن من خلال ما طرحه أرنولد توينبي في نظريته حول "التحدي والاستجابة"، إذ يرى أن الأمم تنهض حين تواجه تحديًا حضاريًا وتستجيب له استجابة خلاقة، لكنها تنهار حين تعجز عن توليد ردٍّ إبداعيٍ جديد على التحديات المتجددة. واليمن اليوم يواجه تحديًا مماثلًا: اختبار القدرة على تجاوز ثنائية الكهنوت والتبعية، نحو وعي وطني مدني جامع يعيد للدولة معناها وللمواطنة قيمتها.
ما يحدث في اليمن ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل هو صراع بين مشروعين متناقضين في جوهرهما: مشروع الوعي الوطني الذي أنجب ثورتي سبتمبر وأكتوبر، ومشروع النكوص الذي يسعى لإعادة إنتاج أنماط السلطة القديمة تحت شعارات جديدة. غير أن "سنن التاريخ" -كما يؤكد توينبي وابن خلدون- تشير إلى أن الركود ليس قدرًا أبديًا، وأن الشعوب التي بلغت حدّ الألم قادرة على توليد وعيٍ جديد يحرّرها من قيودها.
قد يطول زمن الانتظار حتى تفرز التجربة اليمنية رجالًا بحجم قادة الثورتين، لكن منطق التاريخ لا يسمح بالجمود؛ فكل انحطاطٍ يلد نقيضه، وكل مرحلة ظلام تهيّئ لبزوغ فجرٍ جديد. وهكذا يبقى المسار اليمني، بكل مآسيه وتحدياته، شاهدًا على قانونٍ أزلي: أن الشعوب التي عرفت معنى الحرية، لا يمكن أن تُستعبد إلى الأبد.