سلموا لي على حبيب قلبي!
ليس بخافٍ أنَّ الرؤساء الزمنيين والزعماء الدينيين في غالب مراحل حضارتنا العربية الإسلامية أمسكوا بأيديهم مفاتيح الدنيا والآخرة، واستأثروا بها دون سائر الناس، فرسموا لهم رُسُومًا، ووضعوا قواعد وَسَنُّوا قوانين لا يجوز لهم الخروج عنها أو تجاوزها.
ومع ذلك، فلم يكن الزعماء الدينيون منفردين بهذا الأمر؛ فإنهم لم يكونوا سوى أتباعًا وظلالاً باهتةً للحكام والطغاة المستبدين. فالخليفة القادر العباسي يصدر مرسومًا يتعلق بالاعتقاد القادري، وما الذي ينبغي على المؤمن الحق أن يتبعه ولا يحيد عنه قِيدَ شعره، ثُمَّ يأتي بعد ذلك دور الفقهاء ليقوموا بالمصادقة والتوقيع عليه.
وهذا الخليفة أيضًا يقوم بجمع العلماء إلى حضرته السلطانية؛ ليصدروا منشورهم بشأن الطعن في أنساب الخلفاء الفاطميين المنافسين له والذين كانوا يمثلون تهديدًا خطيرًا لخلافته، فيكتبون له وثيقة تتضمن ما يريده منهم، في الطعن في أنساب هؤلاء والقدح في شرعيتهم.
حتى جاء العلامة المؤرخ ابن خلدون فذكر في مقدمته أنَّ هذا الطعن لم يكن من قبل العلماء إلا بإملاء السياسة.
لقد انشغل الفقهاء والمحدثون بالاستكثار من أحاديث لم تترك شيئًا إلا وتدخلت فيه وتناولته؛ ناسبين ذلك كله إلى صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، حتى قضاء الحاجة؛ ذلك الأمر الفطري، أتوا بأحاديث تُعلِّم الناس كيف يقضون حاجتهم!
فهل بالله عليكم هذا الأمر الذي يعرفه الحيوان غير المكلف ويقوم به بشكل طبيعي- هل يحتاج لحديث؟!
فالقطة حين تقضي حاجتها تعرف كيف تصنع، ثُمَّ إنها تدفن نجوها في التراب دون أدنى حاجة لمثل هذا الهذيان الذي سودوا به كتبهم.
يذكر عن بعض من ذهب لطلب العلم في أحد المساجد، فسمع الشيخ يذكر من كتاب الفقه: أنَّ على قاضي الحاجة الا يستقبل القبلة، ولا الشمس، ولا القمر، ولا...، ولا ... إلخ. فأطلق زفرةً عميقةً من صدره، وقال: لقد ضاقت الأرض على قاضي الحاجة!
ومع ذلك، فمن التجني الحكم على أنَّ هذه الحضارة كانت نسيجًا أو لونًا وَاحدًا، فقد عرفت في مراحلها المختلفة علماء نأوا بأنفسهم عن السلطة ومغرياتها، وعن سلوك مسالك التكفير والتفسيق، وتجنبوا التعصب والتشدد بجميع أشكاله.
فهذا الإمام أبو حنيفة كَانَ له جار إسكافي، يعمل طيلة نهاره، فإذا أقبلَ الليل، عَادَ إلى منزله، فَطبخَ عشاءه، ثم يأخذ في الشرب، حتى إذا دبت الخمرة في أوصاله، ينشد:
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا
لِيومِ كَريهةٍ وَسِدَادِ ثَغرِ
ولا يزال على ذلك حتى يغلبه النوم. وكان صوته يتناهى إلى أبي حنيفة، وهو في صلاة بالليل.
وحين افتقد أبو حنيفة صوته في أحد الأيام، سَألَ عنه، فقيل له: أخذته الشرطة، وهو محبوس.
فركب أبو حنيفة بغلته بعد صلاة الفجر، واستأذن على الأمير، فقال الأمير: ائذنوا له، وأقبلوا به رَاكبًا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط ببغلته، فكان ذلك.
وقد بالغ الأمير في التحفي به، وسأله عن حاجته. فقال: لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ليالٍ، يأمر الأمير بتخليته.
فأنعم له الأمير بذلك، وأطلق كل من أُخِذَ في تِلكَ الليلة معه.
فَلمَّا خَرجَ وَسَارَ مع أبي حنيفة، سأله الإمام: يا فتى هل أضعناك؟
فقال: لا، بل حفظت ورعيت جَزاكَ الله خَيرًا عن حرمة الجوار ورعاية الحق.
لقد ضيق الفقهاء في مسائل كثيرة، منها ما يتعلق بالمرأة، ومنها ما يتعلق بالأقليات الدينية، ويأتي على رأس تلك الأمور الفلسفة والمنطق والفنون: الغناء، والرسم.
ولمَّا أباح علامة الأندلس الكبير ابن حزم الغناء والمعازف، بسط الفقهاء ألسنتهم عليه، وشنعوا به، حتى قال أحدهم:
فَاجزمْ عَلى التَّحريمِ أيَّ جَزمِ
وَالحزمُ ألا تتبع ابن حزمِ
وقد أبيحتْ عِندهُ الأوتَارُ
والعُودُ والطنبورُ والمزمارُ
وأمَّا حجة الإسلام الغزالي، فقد قال في «إحياء علوم الدين»: "مَنْ لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره؛ فهو فاسد المزاج، ليس له علاج".
وكان ممن أجازه العلامة المحدث المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير، وقال العلامة المجتهد القاضي محمد بن علي الشوكاني إنَّ الأحاديث التي تحرمه ضعيفة أو أنها لم تثبت.
وممن احتفى من العلماء بالغناء والمغنين وأنصفهم القاضي الزاهد محمد بن إسماعيل الأكوع. فقد ترجمه العلامة المؤرخ لطف الله جحاف؛ في تاريخه «درر نحور الحور العين»، وذكر أنَّ والده كان "مُثمِّرًا خَرَّاصًا، وأنه أراده على ذلك العمل.
قال: فكرهت، حتى ألجأني أبي إلى أن أنفرد عنه، وقعدت بِدكَّان في السوق. قال: فلامني الناس، وقالوا هذا محض العصيان.
قال: فرجعت إلى أبي، ثُمَّ سِرتُ للتثمير أولَّ مرة، وعدت وأنا كاره، ثُمَّ المرَّة الثاني، فلم أشعر إلا بعجوز قد أقبلت بثياب أخلاق (بالية)، تقول لي: أسألك بمن سَوَّاك لا ظلمتني في خرص هذه؛ فإنَّ لي صبية يتضاغون (يصيحون) ليس لهم إلا الله تعالى.
قال: فعقدت مع الله عهدًا ألا أثمر بعدها طَرفًا من الأرض".
وقال جحاف عنه: "وكان أديبًا، طَاهِرَ اللسان، حسن الصوت ذا نغمةٍ يتشاغل به أهل الفن والصناعة لصوته ليسَ إلا، فأمَّا الصناعة والضرب بالعود فكان لا يحسنها".
وكان يرى فضلاً لأهل الغناء على غيرهم، فيقول: اشتغلوا بالمباح، وتركوا الثلب للأعراض، ومالوا عن حسد أهل الدنيا".
ويحكي عنه قوله: "رأيت رجلاً من أهل الهوى والصبابة طلب رجلاً مغنيًّا مُفلِسًا، فجاء الرسول، وقال أجب فلانًا. فقال: أنا مُغَنٍّ مُفلِس؛ وزوجتي ماتت الآن، ولا كفن لها! وراجع نفسه، وقال: حالتان متباينتان. ثُمَّ نهض في ليلته، وهو كئيب حزين؛ فارتاح لوصوله صاحب المنزل.
قال: فلقد رأيت المغني في حال السماع تنحدر دموعه، وصاحب المنزل كذلك؛ فعجبت من المغني، فسألته عند قيامه، وقلت: مَا عَهِدتُ منكَ البكاء. فأمَّا رَبّ المنزل فإنَّ له أشجانًا مُوجِبة، فقال: أنا والله الليلة ماتت زوجتي، فأنا أغني وأبكيها. أمَا سمعتني أقول:
كأنْ لم يكن بين الحُجُون إلى الصَّفَا
أنيسٌ وَلمْ يَسمُرْ بمكةَ سَامِرُ
انتهى باختصار (من درر نحور الحور العين بسيرة المنصور علي وأعلام دولته الميامين، دراسة وتحقيق عارف محمد عبد الله فارع الرعوي، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004م، ص987- 989).
وحدثني أحد الأصدقاء من آل المحضار أنه في بداية الثمانينات كان له قريب اسمه ناصر المحضار، كَانَ شَابًا وسيمًا تعرف على الفنانة المرحومة تقية الطويلة وتزوجها عن حب، وكان لناصر هذا تاكسي يعمل عليه.
وكان له صديقان يجالسهما ويأنس بهما. وفي أحد الأيام، ذهب للمقيل عندهما لتناول القات، وكانا قد عزما على قتله، وسلب سيارته. وقد أعدوا العُدَّة بتجهيز عقد بيع للتاكسي، ثُمَّ إنهم غافلوه، وقاموا بضربهِ ضَربًا شديدًا، وإرغامه على البصمة على بيع سيارته لهم، ثُمَّ قاموا بقتله، وفصل رأسه عن جسده، وقطع أصبعه، وتقطيع أوصاله، ورميها في كيس ببرميل القمامة، وَصادفَ أن رآهم أحد الأولاد وهم يفعلون ذلك، ولمَّا قامَ الأمن بالتحريات المطلوبة، اهتدوا للمتهمين، خاصةً وأنَّ سيارة القتيل المغدور به كانت بحوزتهم، ودل عليهم هذا الصبي الذي رآهم وهم يرمون تلك الأكياس.
وجرت محاكمة علنية على تلفزيون الجمهورية العربية اليمنية، وذلك قبل وحدة الشطرين: الشمال، والجنوب.
قال: ولمَّا كان القتيل جنوبيًّا مُقيمًا بالشمال قبل الوحدة، خشينا، وخشي أولياء الدم أن يضيع دم قتيلهم، ولو بالتنازل والرِّضى بِالدِّية، لكن سارت إجراءات التقاضي بسلام، ولمَّا حان يوم تنفيذ القصاص، جاء القبائل بقضهم وقضيضهم، وعرضوا على الفنانة تقية الطويلة -رحمها الله- وبذلوا لها ديات مضاعفة حتى تعفو وترضى بالدية بدلاً عن القصاص.
قال: فقالت لهم: لو بذلتم لي كنوز الأرض ما رضيت إلا بحكم الله القصاص. فقد قتلتم حبيبي.
ثُمَّ لمَّا شُرِعَ في تنفيذ القصاص صَاحَتْ تَقيِّة بِالقتلة قَائِلةً لَهُم: سَلِّمُوا لِي عَلى حَبيب قَلبِي!