صنعاء 19C امطار خفيفة

اللام ولا في فصيح العربية ومحكية خُبَان اليمنية

قبل ثلاثة أيام كتبت تعليقًا في صفحة «الفيس» هذين البيتين:

عَلِيشْ الحُزنْ يَا قَلبِيْ
وَقَلبِيْ يِحبَّكْ مُوتْ؟!
لِقِيتَكْ ِفيْ دُجَىْ دَربِيْ
وَأطرَبنِيْ هَدِيَلَ الصُّوتْ
ثم بدا لي بعد كتابته والتأمل فيه، أنَّ عجز البيت الأول مختل الوزن، مع أني لا أعرف شيئًا عن الأوزان والعروض، وإنما أقول الشعر لشغفي به منذ الطفولة، وقراءتي واستظهاري لبعض نصوصه.
فارتأيت إضافة حرف (لا) وسطه:
وَقَلبِيْ (لا) يحبك مُوتْ؟!
وحرف (لا) في بعض المحكيات اليمنية، وخاصة في مناطقها الوسطى، كـ «يريم»، و«السَّدَّة»، وغيرهما، تأتي لتوكيد المعنى. يقول الرجل لصاحبه: أنا (لا) احُبُكْ. أي أنا أحبك حبًّا جمًّا.
وهي في هذه المحكية ذات جذر حميري قديم، كما أنها -بحسب رأيي- هي نفسها الـ (لام)؛ المعروفة بلام الابتداء المؤكدة الداخلة على الجملة الاسمية والأفعال في فصيح العربية، لكنها في المحكية اليمنية أشبعت فَتحتُها إشباعًا حتى صارت تنطق لا.
أمَّا في فصيح الكلام، فلم تشبع، ونطقت لام. ربما نتيجة تطور لغوي؛ ولتنماز عن (لا النافية).
ولا أظنها إلا هي نفسها (لا) الذين يذهب بعض النحاة أنها زائدة في قوله تعالى: (لا أقسم بيوم القيامة)، فإنهم قد حاروا فيها، وأكثروا من التخريجات والتأولات بشأنها؛ لشبهها بالنافية.
و (اللام) هذه هي لام الابتداء؛ تدخل على الجملة الاسمية والفعلية في ثلاثة مواضع بحسب النحاة؛ لتأكيد مضمون الجملة الداخلة عليها؛ فهي:
تدخل على المبتدأ؛ في حال تقدمه على الخبر على الأصل؛ نحو قوله تعالى: (لأنتم أشد رهبة)، فإن تأخر عن الخبر، امتنع اقترانها به؛ كما يقول النحاة. وتدخل على الخبر بشرط تقدمه على المبتدأ نحو: (لَعَارفٌ أنت).
وتدخل بعد (إنَّ) الناصبة المكسورة؛ فتدخل على اسمها المتأخر؛ نحو (إنَّ في الصبر لخيرًا)، وعلى خبرها نحو: (إنَّ الحق لمنصور)، وعلى ضمير الفصل نحو: (إن المتقي لَهُوَ المُعَان).
وتدخل على الفعل المضارع نحو: لَتنهضُ الأمة مقتفية آثار جدودها. والماضي الجامد: نحو (لَبئسَ ماكانوا يعملون). والماضي المتصرف المقرون بقد نحو: (لقد كان لكم في يوسف وإخوته آيات). ومن العلماء من يجعل اللام الداخلة على الماضي في المثال السابق لام القسم، والقسم محذوف ومصحوب اللام جوابه. ويقول النحاة: إنَّ فائدة هذه اللام توكيد مضمون الجملة المثبتة؛ ولذا تسمى لام التوكيد، وتسمى أيضًا لام الابتداء؛ لأنها في الأصل تدخل على المبتدأ، أو لأنها تقع في ابتداء الكلام.
ولمَّا كانت للتوكيد، فإذا سبقت بإنَّ المفيدة للتأكيد أيضًا تزحلق إلى الخبر نحو: (إنَّ الله لسميعٌ الدعاء)؛ لكراهة اجتماع مؤكدين في نفس الموضع، ولذلك تسمى اللام المُزَحلَقَة. وإذا دخلت على الفعل المضارع، فإن فائدتها كما يقولون: إنها تخلص الفعل المضارع للحال بعد أن كان يحتمل الزمنين: الحاضر، والمستقبل.
ويقولون: إنها إذا كانت جاءت لتوكيد الخبر، يمتنع دخولها على الماضي، والمضارع المستقبل إلا أن يكون الماضي جامدًا أو متصرفًا مقرونا بقد؛ لأنَّ الجامد لا يدل على حدث ولا زمان، أمَّا قد فلأنها تقرب الماضي من الحاضر. (انظر: جامع الدروس العربية، المكتبة العصرية، 1983م للشيخ مصطفى الغلاييني بتصرف واختصار: 2/ 310-312).
ومع أنهم يمنعون دخول اللام على المضارع الدال على المستقبل، سواء كان مسبوقًا بأداة تمحضه للاستقبال؛ نحو السين وسوف، وأدوات الشرط الجازمة، أو غير مسبوق بها، وإنما القرينة تدل عليها نحو: إنه يجيء غدًا.
=مع أنهم يمنعون دخول اللام على المضارع المستقبل، يرد ويشكل عليهم دخولها في قوله تعالى: (وإنَّ ربك ليحكم بينهم يوم القيامة)؛ فيتأولون ذلك بأنَّ المستقبل هنا نزل منزلة الحاضر لتحقق وقوعه، كما يشكل عليهم أيضًا قوله تعالى: (إني ليحزنني أن تذهبوا به).
يقول الشيخ العلامة مصطفى الغلاييني متبنيًّا هذه الرؤية: "الذهاب وإن كان مستقبلاً؛ فإن أثره، وهو الحزن، حاضر؛ فإنه حزن لمجرد علمه أنهم ذاهبون به؛ فلم يخرج المضارع وهو (يحزنني) عن كونه حالاً". (انظر: جامع الدروس العربية، المكتبة العصرية، 1983م: 2/ 312).
وهذه حيدة وتملص وتكلف منهم. وإلا فالمعنى الذي تؤديه هذه الجملة هو نفس مفهوم الجملة الشرطية: إن ذهبتم به حزنت لذلك.
وأين ما يدل من كلام يعقوب أنَّ مجرد علمه بذهابهم بأخيهم يوسف يحزنه؟
إنَّ ما يحزنه -بنص القرآن الظاهر والصريح- هو ذهابهم به. والذهاب متقدم، والحزن متأخر عنه مترتب عليه مستقبلاً، وكلاهما لم يقع مضمونه وقت الحديث.
نعم لو قال لهم: أنا حزين لكلامكم هذا. لساغ كلام الغلاييني والنحاة، وأنَّى لهم هذا.
لقد أخبرهم يعقوب بهذه الجملة الاسمية الخبرية؛ لتحقق وقوع مضمونها أكثر منها فيما لو ساقها بصيغة الشرط. فمعنى كلامه: إنَّ ذهابكم به يحزنني، مثلها مثل جملة: إنَّ الله لا يظلم الناس شيئًا.
فإذا قال الوالد لطفله: إني ليحزنني أن تضرب أخاك الصغير. على جهة التوجيه والتربية له. فهو بمعنى إن ضربت أخاك حزنت لذلك.
وإذا قال المدرس على جهة إخبار تلاميذه ما يحب منهم وما يكرهم في أول لقاء له بهم في الفصل الدراسي: إني لأفرحُ حين أرى الطالب يؤدي واجباته أولاً بأول.
فهل في هذه الجملة ما يدل على أنه فرح ومسرور؟
بالطبع لا، ولكنه أخبرهم بهذه الصيغة الخبرية على جهة التأكيد، وتحقق مضمونها فيما لو تم الالتزام منهم بمضمونها.
ولذلك ذهب الكوفيون أنَّ دخول اللام على المضارع لا يمحضها للحال، وأنه يجوز دخولها على المستقبل، وأنَّ الآية على حقيقتها.
أم (لا) في قوله تعالى: (لا أقسم بيوم القيامة)، فيذهب بعض النحاة أنها زائدة وصلة؛ مثلها مثل: (لئلا يعلم أهل الكتاب)؛ بمعنى ليعلم أهل الكتاب.
وآخرون يذهب إلى أنها نافية كالزمخشري في كشافه.
وكيف تكون نافية، والفعل الذي يليها هو فعل قسم جيء به لتأكيد مضمونه؟!
ويتأول الزمخشري بِأنَّ "المعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظامًا له. يدلك عليه قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)، فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إنّ إعظامي له بإقسامى به كلا إعظام، يعنى أنه يستأهل فوق ذلك". انتهى. (الكشاف، دار الكتاب العربي: 4/ 657).
أقول هكذا ورد، ولم يتضح لي مضمون هذا الكلام، ولم يستقم لي معناه إلا على وجه السؤال. بمعنى أنه يقصد: هل إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام؟!
فإذا كان كذلك، فكيف جاء بالجملة بصيغة الإثبات مؤكدة بحرف إنَّ؟!
إن المعنى ولا شك يختل؛ لأنه يسأل، ومن يسأل فهو في حكم المتشكك، ثم يأتي بحرف مؤكد يناقض معنى السؤال. إنَّ معنى هذه الجملة تصير متناقضة كما تقول: إنَّ حبي لزيد كعدم حبي له!!
فإن صح معنى السؤال فهو أيضًا برأيي تكلف. فإنَّ التعظيم الوارد واضح بمجرد الإقسام به. فإن الله لا يقسم إلا بعظيم؛ وهذا ما يدل عليه في قوله: (فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم)، وقوله: (لا أقسم بهذا البلد)، ولا شك أنَّ البلد الحرام أعظم حرمة ومنزلة من غيره من البلدان، لكنهم حاروا في (لا)، الواقعة قبل فعل القسم، والتي هي بصيغة النفي، ولم يدروا أصلها وجذرها.
وأيُّ وجه لزيادتها كما يقول بعضهم الآخر؛ وقد وردت هذه الآية في قراءة ابن كثير: (لأقسمُ)؟!
ويقول الزمخشري إنها في المصحف الإمام. (4/ 653)؛ يعني مصحف عثمان؛ فعلى هذا فإن قراءتها باللام هي قراءة قريش، وبـ (لا) قراءة يمنية قديمة، وأنَّ (اللام) هذه هي (لا) نفسها في لغة اليمن القديمة، وفي بعض الآيات القرآنية والشعر العربي.
ففي كلتا القراءتين هي لام الابتداء المؤكدة، وهي هنا داخلة على خبرها بحسب الظاهر؛ وهو الفعل، وأنَّ المبتدأ محذوف تقديره (أنا)، لا كما ذهب الزمخشري أنها داخلة على مبتدأ محذوف تقديره: لأنا أقسم.
فهذه الجملة كقول صاحب خبان أو المناطق الوسطى: أنا لا احبك. أي أحبك حبا جمًّا، أو أحبك بشكل مؤكد.
وأخيرًا..
هذه اللام المؤكدة- لام الابتداء، أو (لا) الزائدة أو النافية في فصيح العربية بحسب النحاة، هيَ هيَ نفسها(لا) اليمنية الحميرية الداخلة على الجملة الاسمية والأفعال للتأكيد، وأنها صارت لامًا في عملية تطور نحوي، وبقيت لها آثار في أشعار العرب، كقول امرئ القيس، وهو يمني من كندة:
فلا وأبيكِ ابنةَ العامر 
يِّ لا يَدعِّي القومُ أنِّي أفر
وفي لغة القرآن الكريم، كما في هذه الآية، وفي قوله: (لا أقسم بهذا البلد)، و(لا أقسم بالخُنَّس).
وبعد فراغي من كتابة الموضوع قمت بإرساله للأخ العزيز المكرم القاضي العلامة أحمد الآنسي، فأرسل لي هذا البيت الشعري:
تذكرتُ ليلى فاعترتني صبابةٌ 
وَكادَ نياطُ القلب «لا» يَتقَطَّعُ
والشاهد في غاية الوضوح والمطابقة لعبارة صاحب لهجة خبان الحميرية القديمة: أنا «لا» احبك!

الكلمات الدلالية