فرامل

إهداء
إلى رجلٍ لا أعرفه.
غادرنا الفندق قبل أن يستيقظ الضوء تمامًا. كنت مرهقًا، كعادتي في ليالي السفر: لا نوم كافٍ، ولا راحة، فقط انتظارٌ ثقيلٌ للفجر.
الطرقات فارغة، إلا من آثار أقدامٍ لا أحد يتذكر أصحابها،
والنوافذ مغلقة، كأنها خَجِلة من رحيلنا.
تناولنا فطورًا بسيطًا في بوفيه صغيرة، لا شيء يُذكر سوى طعم القهوة التي لم توقظني، وهدوء المكان.
وقفنا في الشارع، في جولة خمسة وأربعين. لم نكد نقف حتى توقّف أمامنا باصٌ فارغ، كأنما خرج من غفوة المدينة.
سألته، بصوتٍ خافت، كمن يخشى إيقاظ شيء:
«إب؟»
أجاب بنبرةٍ هادئة:
«لا، معبر.»
«اطلع وكمل من هناك.»
نظرت إليه، فوجدت في ملامحه طمأنينة، وفي لكنته دفئًا طربت له أذناي.
قال إنه لن يتوقف لركّاب، وأكّد ذلك. كنت مترددًا، لكنني فتحت الباب الأمامي وصعدت، بينما صعد مرافقي إلى الخلف. وكان عند كلمته، لم يتوقف.
كان الطريق شبه خالٍ، لا شيء سوى ضوء الصباح يتسلل بتردد، كأن المدينة لم تحسم أمرها بعد: هل تستيقظ أم تواصل نومها؟
بدأنا الحديث، فجرّنا الكلام إلى ماضيه. كان نقيبًا في الأمن المركزي.
قلت له:
«شكلك وكلامك لا يوحيان بأنك كنت ضابطًا.»
فضحك.
قلت له:
«خدمت بعد الثانوية عندكم؟»
وإذا بالأشجان تسحبني إلى تلك السنة.
سألته عن فلان، قال:
«مات.»
وعن آخر؟
«قُتل بالقصف.»
وثالث؟
«صار عقيدًا.»
قلت:
«من مساعد إلى عقيد؟»
هزّ رأسه، كأنما يوافق على غرابة ما قلت.
كنت أبحث عن وجوهٍ لم تعد، وعن زمنٍ لم أعد أعرف إن كنت أفتقده أم أهرب منه.
قال إنه ترك العسكرة مع أول أيام الحرب، ولم يندم. يعمل الآن في مكانٍ يدرّ عليه أضعاف راتبه السابق.
ثم قال:
«لو عاد المعسكر كما كان، لن أعود. ولا أنصح أولادي به.»
هززت رأسي موافقًا،
فضحك، كأنما يعرف أن بعض الأماكن لا يُستحسن العودة إليها.
أحسست أنني أمام رجلٍ نجا من شيءٍ لم ينجُ منه كثيرون.
ثم ابتسم، كأنما تذكر شيئًا بعيدًا، وقال:
«أول رتبة حصلت عليها كانت بسبب الأمانة.»
سألته:
«كيف؟»
قال:
«دخلت الحمّام، ووجدت مسدسًا مكروفًا. خرجت وأعطيته لقائد الكتيبة، وكان من بلادنا. مدحني، وقال: لازم تتكافى. وفي طابور الصباح، رقّوني من جندي إلى رقيب، وأعطوني خمسين ألف ريال. كان معاشي وقتها ستة آلاف فقط.»
قلت له:
«فرملت نفسك... الأمانة ترفع صاحبها.»
هزّ رأسه، ولم يعلّق، كأنما يعرف أن الأمانة لا ترفع الجميع.
نظرت إليه، رجلًا في منتصف العمر، يقود باصًا فارغًا بهدوء، يتحدث بلباقةٍ ومنتهى الشفافية، ولكنته لا زالت تطربني.
دفء حديثه بدّد برد الصباح،
في قاع جهران الفسيح،
كان صوته كأنما يروي حكاية عمرٍ، لا مجرد كلمات.
لم يكن في ملامحه شيءٌ من الضباط، لكن فيه من الحكمة النادرة، قلّما تراها كثيرًا عند زملائه.
نظرت إلى الخلف، كان رفيقي يغطّ في نومٍ عميق، رأسه مائل إلى النافذة، كأن الطريق لا يعنيه.
أما أنا، فكنت غارقًا في حديثٍ مع رجلٍ لا أعرفه، لكن صوته بدا مألوفًا، كأنني سمعته من قبل في زمنٍ آخر.
تابعنا الطريق، وأنا أستمع. لا أعرف إن كنت أستمع له أم لذاكرتي.
ثم سألته عن الفرامل، فابتسم وقال بهدوء:
«عادنا بدّلناها قريب.»
ضحكت وقلت:
«تدري؟ قرأت قبل أيام إن جائزة نوبل للطب راحت لثلاثة اكتشفوا نوعًا جديدًا من الفرامل... لكن داخل أجسامنا.»
نظر إليّ باستغراب:
«فرامل؟ في الجسم؟»
قلت:
«نعم، مثل ما الباص يحتاج فرامل توقفه، الجسم أيضًا معه فرامل... وظيفتها إنها تمنع جهاز المناعة من إنه يهاجم نفسه.»
سكت قليلًا، فتابعت:
«الثلاثة العلماء كانوا يشتغلون، كلٌّ على حدة، وكلٌّ يكمل الآخر، على لغزٍ اسمه "المناعة المنظَّمة"... كيف الجسم يفرّق بين العدو والصديق، بين الخطر والذات، وكيف يعرف متى يهاجم ومتى يهدأ.»
ثم قلت له:
«لو المناعة فقدت فراملها، تصير مثل جيشٍ يهاجم شعبه.»
هزّ رأسه وقال:
«مثل كثير من الجيوش... يعني ما معها فرامل.»
قلت:
«بالضبط. الفرامل هذه تجعل المناعة تركز على العدو الحقيقي، مثل السرطان، وتترك خلايا الجسم في حالها.»(*)
سكتنا قليلًا. كان الطريق هادئًا، كأن المدينة كلّها نائمة، لا صوت سوى دوران العجلات على الإسفلت شبه الترابي.
قلت له، كمن يسترجع مشهدًا من زمنٍ بعيد:
«أذكر واحد عسكري كان عندنا بدون فرامل... ما رأيت بلطجيًّا مثله. كان يرى رجلًا وامرأة في سيارة، ولو شكّ بهم قليلًا، يصعد فجأة، بدون إذن، بدون حتى كلمة.»
يتبلطج عليهم.
فقال:
«لو قلت لك كان في واحد أبشع منه...»
قلت:
«كيف؟»
قال:
«معه بنات من إياهن، يشغلهن معه، يطلعن في السيارات، وهو يلحقهم، يهدد السواق بالفضيحة، ويرجع يتقاسم الفلوس هي وهو... ثُلث بثلاثين.»
نظرت إليه، مصدومًا بعض الشيء، وقلت:
«للدرجة هذه؟»
هزّ رأسه.
فقلت:
«ما هذا... صدق، بدون فرامل.»
ثم علّقت فقلت:
«حتى في الجسد، هناك من يراقب ويفرمل، أما في بعض المجتمعات، فالفرامل مفقودة منذ زمن.»
ضحك، وضحكت معه.
لكنه ضحك بمرارة، نضحك على واقعٍ لا نملك تغييره، فنكتفي بأن نرويه كحكايةٍ عابرة، في طريقٍ شبه ترابي، بصحبة من لا نعرفه.
(*) ملخّصٌ بتصرّف من مقالٍ للدكتور علا بسيوني.