من أرض الأحرار... برع!
كان العام 1966، والبلاد تغلي بأغاني الثورة. من صوت العرب كانت تصدح حنجرة محمد محسن عطروش: "برع يا استعمار، من أرض الأحرار... برع!"
كنت يومها طفلًا في السادسة من عمري، نحيل الجسد، واسع الخيال، أعيش في قرية صغيرة من بلاد العواذل بعد أن غادرنا عدن إثر الحرب الأهلية الأولى بين الجبهة القومية وجبهة التحرير.
في تلك الأيام كانت قريتنا تغصّ بحكايات الأرض والميراث أكثر مما تغصّ بحكايات الاستقلال. نشب خلاف بين أخوالي على قطعة أرض ورثوها عن أبيهم، فافترقوا فريقين: الرجال في جهة، والنساء في جهة أخرى. كانت الأصوات ترتفع، والوجوه تتجهم، حتى جاء القاضي المسيبلي بعمامته البيضاء وهيبته القديمة، فقسّم الأرض بين الفريقين وأنهى الخصومة.
كنت أتابع المشهد من علٍ، فوق شجرة "فرسك" عالية، أراقبهم كما يراقب طفلٌ عصفورًا متشاجرًا مع رفيقه. وحين هدأ كل شيء، انتشيت بنشوة النصر الصغير ورددت بصوت عالٍ ما حفظته من الراديو:
"برع يا استعمار... من أرض الأحرار، برع!"
مرّ خالي تحت الشجرة، نظر إليّ مبتسمًا بمكر، التقط حجرًا صغيرًا ورماني به مازحًا وهو يقول ضاحكًا:
"من أرض أمك يا بطل!"
ضحكتُ حتى كدت أسقط من الشجرة، ولم أدرِ يومها أن أغنيتي تلك كانت حلم وطنٍ بأكمله، وأن ضحكة خالي كانت مرآة لواقعٍ لم يتحرر بعد، لا من الاستعمار، ولا من خصومات الأرض.