صنعاء 19C امطار خفيفة

اليمن بين الحقيقة والخيارات المستحيلة

كلٌّ منا يرى المشهد اليمني ويقرأه من زاويته الخاصة، من خلال تجربة عاشها، أو موقعٍ تبوأه، أو معطياتٍ امتلكها، أو أحداثٍ عاصرها وكان فاعلًا فيها أو شاهدًا عليها.

لكن من الضروري أن نتواضع ونعترف بأنه لا حقيقة مطلقة، ولا أحد يمتلكها كاملة، ولا يجوز لأي طرفٍ أن يدّعي احتكارها كما تفعل أطراف الصراع داخل ما تبقى من "الشرعية" أو خارجها.
الحقيقة الأقرب إلى الصواب هي تلك التي تستند إلى قراءة واقعية وتحليل متزن يستمد منطقه من المشهد الماثل أمامنا على الأرض لا من أوهام الشعارات.
الرئيس علي عبدالله صالح -له ما له وعليه ما عليه- كان جزءًا من معادلة معقدة، امتدت فيها الصراعات على النفوذ والسلطة بينه وبين شركائه السابقين. ومع طول أمد الصراع دبَّ الخلاف، وتزعزعت الثقة، وتراجعت إمكانية التفاهم بالمصالح. فقد تشكّلت مراكز قوى عصيّة على الاقتلاع، وتوارث الأبناء طموحات الآباء، وازداد نفوذهم، فيما لعبت إغراءات الخارج ووعوده الدور الأبرز في تغذية هذا الصراع، إذ ظلّ المتنفذون مرتبطين بالخارج منذ السبعينيات، ولم ينفكوا عن تبعيته يومًا.
كان ملف التوريث إحدى الأدوات التي استُخدمت لتأليب الداخل والخارج ضد صالح، وتصويره كمن يسعى إلى إقصاء شركاء الأمس والانفراد بالسلطة. وهنا تدخل الخارج بوضوح، مشجعًا على إقصاء صالح وإزاحته عن المشهد، تحت شعار "إنقاذ اليمن"، بينما كان الهدف الحقيقي هو التمهيد لتقسيمه وتمزيق نسيجه الوطني.
لقد جرى تضخيم الصراع ليصل إلى حدّ تحويل اليمن إلى كانتونات مناطقية ومذهبية. فدُعمت مكونات قائمة، وصُنعت أخرى جديدة، واستُدعيت مكونات من الماضي لتأجيج الانقسامات. وعلى الرغم من أن اليمنيين عرفوا الصراعات عبر تاريخهم الطويل، إلا أن الخطر اليوم وجودي، لأن الخارج لم يعد يكتفي بالمراقبة، بل بات يدير اللعبة ويوجه أطرافها وفق مصالحه.
انقسم اليمنيون اليوم إلى ثلاثة محاور متنازعة:
فريق خضع لإمرة وسيطرة الرياض، لا يرفض لها أمرًا ولا يخرج عن توجيهاتها.
وفريق آخر يدور في فلك أبوظبي، ينفذ أجندتها دون تردد.
وثالث ارتبط بمشروع طهران وسياساتها، ولا يستطيع الفكاك من وصايتها.
تلك المحاور، رغم اختلاف راياتها وشعاراتها، يجمعها قاسمٌ واحد: رغبة كلٍّ منها في إقصاء الآخر لا إنقاذ الوطن.
وهنا يبرز السؤال الجوهري:
هل الرياض حقًا تريد لليمن ما يطمح إليه حلفاؤها وما يرفعونه من شعارات؟
وهل أبوظبي صادقة في دعواتها لدعم الاستقرار ووحدة الصف؟
ثم أين المواقف العلنية والواضحة من قادة هاتين العاصمتين تجاه وحدة اليمن وسلامة أراضيه واستقلال قراره؟
هل سمعنا تأكيدًا صريحًا منهما على وحدة اليمن كما يفعلان في ملفات أخرى كسوريا مثلًا؟
الواقع يقول عكس ذلك تمامًا؛ فالمشهد اليمني يُفكك ويُقسم، والوطن يُختزل بين مشاريع نفوذ وصراع مصالح، فيما تتآكل الدولة وتُهدر السيادة تحت أقدام المتنازعين.
ربما كان صالح آخر رئيسٍ لليمن الموحد، وما يُتداول اليوم من حديثٍ عن "استعادة الدولة والشرعية" ليس سوى ذرٍّ للرماد في العيون، لتمويه ما يُنفذ من مشروع تقسيم وتقاسم لليمن.
لقد كان صالح عقبة كبرى أمام هذا المشروع، ولذلك كان التخلص منه ضرورة في نظرهم.
والدليل واضح: انظر حولك اليوم، قارن بين ما كان عليه اليمن في عهد صالح وبين ما آل إليه في عهد من استبدلوه...
هل أخرجوه حقًا لإنقاذ الوطن؟ أم لإغراقه في فوضى لا نهاية لها؟
* نائب وسفير سابق

الكلمات الدلالية